الثلاثاء، 20 مارس 2012

ذاكــرة الأيــام (حلقة 1)



ذاكــرة الأيــام
الحلقة 1 الجزاء الاول
إبراهيم السنوسي أمنينه

إن أمة بلا ماضي لا حاضر لها ولا ذاكرة ولا مستقبل، وإن أبطال التاريخ هم ذاكرة الأمة.
هذه محطات تاريخية وحقائق في حياة ملك ليبيا السابق محمد إدريس السنوسي رحمه الله وغفر له، يجهلها العامة وبعض الخاصة، وردت في مذكراته التي كانت قد نشرت على صفحات جريدة الزمان لصاحبها المرحوم عمر الأشهب بتاريخ 27/1/1955 الموافق 3 جمادي الآخرة 1374 هـ، وهي مروية على لسانه وتتناول عدة قضايا مثل نشأة الطريقة السنوسية وأصولها، ومبايعة الأخوان السنوسيون له لاستلام الإمارة، ودوره في معارك الجهاد ضد المستعمر الإيطالي، ثم دوره في المفاوضات مع الإنجليز ثم الإيطاليين عندما اشتدت الضائقة بالسكان في برقة وانتشرت الأمراض والمجاعة أثناء الحرب العالمية الأولى وإلى قصة مصرع سكرتيره ومدير خاصّته إبراهيم الشلحي على يد شاب من أبناء عمومته، وذلك بتاريخ 5 أكتوبر 1954 أمام مبنى الحكومة الاتحادية الذي كان يقع في مكان المجمع الحكومي الحالي الواقع بين شارعي 23 يوليو وجمال عبدالناصر.
فيروي جلالته قائلاً: من المعلوم أن مؤسس الطريقة الإسلامية هو الإمام محمد بن علي السنوسي، وكانت بداية التأسيس في الجزائر عام 1235هـ، وما لبثت هذه الطريقة أن انتشرت في كل من الحجاز وبرقة وجنوب طرابلس والصحراء المصرية.
وفي يوم 9 من شهر صفر 1276 هـ انتقل مؤسس الطريقة إلى رحمة الله تاركاً ولدين صغيرين هما والدي السيد محمد المهدي وشقيقه السيد محمد الشريف، وهذا الأخير هو أصغر الولدين سناً، واتفق "الأخوان السنوسيون" على إقامة أكبر أبناء المؤسس مقام والده وذلك أمر طبيعي، وعندما توفي هذا، أعنى السيد محمد المهدي في 23 من صفر 1320 هـ، ترك ولديه الصغيرين أحدهما أنا وثانيهما أخي السيد محمد الرضا وكان عمري آنذاك 12 عاماً أما أخي فكان يصغرني بعام واحد.
ورأى الأخوان إقامة السيد أحمد الشريف بن السيد محمد الشريف على شئون الطريقة بصفة النيابة ريثما يبلغ ابن السيد المهدي، الذي هو كاتب هذه المذكرات، مبلغ الرجال ليقوم مقام أبيه.

مبايعة الأخوان للملك:
بعد وفاة والدي ببضعة أيام خاطبني السيد أحمد الشريف قائلاً: أنني أشغل مقام والدك وديعة بالوكالة عنك حتى تبلغ مبلغ الرجال فتستلم مقام والدك. ومرت السنون واحتل الطليان أثناءها ليبيا، وعندئذ جاء بعض الأخوان السنوسيون وذلك بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن بقيتهم يطلبون مني أن أستلم عمل والدي من السيد أحمد الشريف ابن عمي وهو آنذاك يُحضّر نفسه للسفر من الكفرة إلى الجغبوب ليكون على مقربة من المجاهدين وذلك بناء على طلب من أنور باشا وكان ردي على طلب لأخوان هو أن السيد أحمد الشريف يحضر نفسه للسفر ونحن مقبلون على حرب ولذلك لا أرى أن أستلم في هذا الوقت وأنني أقدر حكمته في مزاولة الأمور، وعندما يستقر الحال سوف يتم ما تريدون ولا شك أبداً في موافقة السيد أحمد على ذلك. 

استعداد الملك لاستلام منصبه:
سافر السيد أحمد وبقيت بعده في الكفرة سنة كاملة أتمرن أثناءها على مزاولة الأمور التي تتعلق بمهمتي وفي خلال هذه المدة تنازلت تركيا عن البلاد لإيطاليا وكان السيد أحمد الشريف يحارب الإيطاليين ففضلت أن أذهب لأداء فريضة الحج على أن أعود بعد ذلك لمعاونته في شهر ربيع الأول 1333هـ الموافق شهر مارس 1915م، ولما عدت إلى البلاد وجدت السيد أحمد ومن معه من المحاربين قد تحول إلى قرب السلوم بعد أن استولى الإيطاليون على مرافق برقة الحيوية ومعظم المراكز في الدواخل منها، وكانت طرابلس قد استسلمت للطليان بمجرد تنازل تركيا بموجب اتفاقية أوشي لوزان المؤرخة في أكتوبر 1912، وكانت الحرب العظمى على أشدها، ومكثت مع السيد أحمد حوالي 9 أشهر نترقب الحوادث ونستعد للأحداث، وفي هذه الأثناء تلقى السيد أحمد أمراً من السلطان العثماني بإعلان الحرب ضد الإنجليز وأعتبر السيد أحمد نفسه ملزماً بتنفيذ هذا الأمر الذي أصدره الخليفة، وكان حسن النية يتوفر في تصرفات السيد أحمد فأعلن الحرب من جهته.
الملك يطلب الصلح مع الإنجليز ليخفف الضائقة على البرقاويين في الحرب العالمية الأولى:  
وعند ذلك طالبت الصلح مع الإنجليز بغرض تخفيف الضائقة على سكان برقة في الحرب العالمية الأولى، وقمت بمغادرة السلوم إلى برقة التي كانت حالتها على غير ما يرام وذلك من توالي شنّ الغارات الطليانية عليها وتوالي الجفاف والقحط أيضاً الأمر الذي جعل العشائر في البادية تستسلم للطليان أولاً بأول هرباً من طغيان الجوع، وكانت السوق المصرية قد أقفلت في أوجه الليبيين في برقة فلا يستطيعون والحالة هذه النزوح إلى مصر أو التموين من أسواقها وذلك لوجود حالة الحرب بين السيد أحمد الشريف والإنجليز، الذين يسيطرون على مصر في تلك الفترة، وقد اشتدت الضائقة بالناس فألتجأوا إليّ مستغيثين ومطالبين بأن أعمل على إيجاد طريقة للخلاص سواء ذلك عندهم مع الطليان أو مع الإنجليز ليتمكنوا من جلب المؤن وإلا فستضطر البقية الباقية للاستسلام، وأتصلت بالسيد أحمد الشريف وهو يوجد بالواحات الداخلة لإخباره بذلك وكان رده بالموافقة على التفاهم مع الإنجليز دون الطليان وعندئذ اتصلت بالإنجليز الذين رفضوا التفاهم إلا إذا عملنا على التفاهم مع الطليان أيضاً، وبحكم الضرورة قبلنا بهذا الشرط وابتدأنا المحادثات بموقع الزويتينة لكنها لم تسفر عن اتفاق يرضينا ثم تحولت المحادثات إلى ناحية طبرق وفي هذه الأثناء عاد السيد أحمد الشريف من الواحات الداخلة إلى الجغبوب مكرهاً ثم واصل سيره إلى جالو وكنا قد وصلنا إلى عقد الصلح مع الإنجليز من جهة وبيننا وبين الطليان من جهة أخرى على أساس فتح الأسواق في السلوم لأهالي برقة وفتح أسواق موانئ برقة لدواخلها، بشرط أن يخرج السيد أحمد الشريف من برقة.

شهادة السيد أحمد الشريف في (إبراهيم الشلحي):
عندما اعتزمت التحول من السلوم إلى برقة طلبت من السيد أحمد الشريف تزويدي برجل يحوز ثقته لكي أوليه أوراقي الخاصة فدلني على إبراهيم الشلحي الذي كان ضمن الجيش والذي كان على مقربة من السيد أحمد وامتدحه لي قائلاً بأنه من عائلة طيبة وشجاع وأمين على الأسرار فأخذته وفعلاً وجدته عند ظن السيد أحمد الشريف وكان على جانب من التدين والاستقامة الوطنية والنزاهة. ذهب السيد أحمد الشريف من جالو إلى سرت ولكن الطرابلسيين جعلوه يرتد عنها إلى حدود برقة غير أن طيب عنصره حتم عليه ألا يدخل برقة حسب طلب الإنجليز وشروطهم خشية تحرج الحالة بيننا وبين الإنجليز أو الطليان لأنه كان على رأس المجاهدين في مواجهتهم على الحدود المصرية. وبقى أيام بميناء العقيلة، وفي هذه الأثناء خابر أنور باشا في تركيا طالباً منه إرسال واسطة تنقله إلى اسطنبول وقد طلب أنور باشا بدوره من ألمانيا بأن ترسل غواصة تقل السيد أحمد الشريف وبعض رفاقه من ميناء العقيلة إلى مرسى "بولا" بالنمسا ومنها ينتقل براً إلى تركيا ولقد أجيب إلى طلبه ذلك.

هزيمة تركيا وألمانيا في الحرب العالمية الأولى:
بينما كنت في إحدى الأمسيات أخلو بنفسي بالزويتينة وإذا بعلي باشا العابدية يتصل بي لإخباري بأن رسولاً جاء من طرف السيد أحمد الشريف يطلب مقابلتي، وكان هذا الرسول هو محمد صالح باشا حرب، فأجبت طلبه واستقبلته بحضور علي باشا العابدية.
  وأبلغني الرسول تحيات السيد أحمد الشريف الشفهية وقال: أن السيد أحمد أحمد اعتزم السفر إلى تركيا ومن المرجح أن الحلفاء سوف يستسلمون إلى ألمانيا قريباً ولذا يرى السيد أحمد أن يكون في اسطنبول ليطلب من تركيا وهي بدورها تطلب من ألمانيا (المنتصرة!!!) أن تضع في وثيقة الصلح مع الحلفاء مسألة استغلال بلادنا، وأنت تكون أنت يا محمد إدريس أميراً على البلاد، وأن السيد أحمد يطلب منك : أن تكتب على ظهر هذا المصحف الشريف موافقتك بأن يكون ولي عهدك هو ابنه السيد العربي لأن ظروف الحرب لا تسمح "بالمكاتبات في شبه الرسائل" ، أما الكتابة على ورقة من ورقات الكتاب وفي زاوية منزوية منه فإنها لا تلفت النظر، وهو أي السيد أحمد سوف يمر على حدود النمسا وبلغاريا، فإذا ما كانت الكتابة المطلوبة في ورقة منفصلة عن المصحف تتعرض غالباً للوقوف عليها واكتشافها وضياعها، وكان ذلك عام 1918 على مشارف انتهاء الحرب العظمى الثانية.
ولم تمض مدة يسيرة حتى استسلمت بلغاريا وأعقبتها ألمانيا ثم تركيا وبذلك انقلبت الأمور عما كان يتطلع إليه السيد أحمد الشريف رأساً على عقب.

تعيين السيد أحمد الرضا والياً لعهد الإمارة السنوسية عام 1920:
في عام 1920م تم التفاهم بيننا وبين الطليان على اتفاقية الرجمة المعروفة وبموجبها اعترفت إيطاليا بإمارتي وقمت بتعيين شقيقي السيد الرضا ولياً لعهدي وكان السيد أحمد الشريف آنئذ في " مرسين " بتركيا ثم انتقل منها إلى المملكة العربية السعودية وذلك عام 1925 " لظروف سوف نتطرق لها فيما بعد" وبقى بها إلى أن توفاه الله عام 1933 في المدينة المنورة ولم يذكر قط لا لي ولا لغيري من بعيد أو قريب مسألة ولاية العهد ولم ينتقد حصرها في شقيقي السيد الرضا دون ابنه العربي ذلك لأن السيد احمد رحمه الله كان عاقلاً ومتفقها في الدين ويعلم جيداً أنه لم يكن مسعاه الذي اشترط به ولاية العهد كان مطلقاً، وأنه أعلم بأنه: إذا أنعدم الشرط بطل المشروط. 

إشاعات يروجها أحفاد السيد أحمد بعد إعلان الاستقلال:
في هذه الأيام التي أعلن فيها استقلال ليبيا ومبايعتي ملكاً عليها راجت إشاعات وكان مروجها من أحفاد السيد أحمد الشريف وأخص بالذكر منهم مالك بن السيد العربي وكامل بن السيد إبراهيم وبشير بن السيد إبراهيم، والشريف محي الدين بن السيد أحمد الشريف وهو الذي كان قد أغتال سكرتيري وأمين سري المرحوم إبراهيم الشلحي، كذلك من بعض أذنابهم وخدمهم، وكان ما يشيعونه أن العرش لهم، وأنني مغتصبه من جدهم، والحقيقة أن السنوسية هي طريقة دينية فقد كان الوارث لمؤسسها هو ابنه الأكبر السيد محمد المهدي وأن يكون الوارث هو صاحب الحق بعد والده، وبهذه المناسبة نشير إلى ما أسلفناه من حديثنا حول ذكرى وفاة السيد المهدي، والدي ، وإقامة الأخوان السنوسيين للسيد أحمد نائباً مؤقتاً ريثما يبلغ ابن السيد المهدي مبلغ الرجال فيئول إليه حقه الطبيعي وهو أمر اعترف به السيد أحمد نفسه للكثيرين من مشائخ القبائل وللأخوان السنوسيين وكان يجاهر بذلك، وقد نشره في عدة رسائل لا يزال الكثير منها محفوظاً. أما المنصب السياسي بالمعني الصحيح فلم يتقلده من هذه العائلة السنوسية سوى كاتب هذه المذكرات (محمد إدريس) وقد اعترفت إيطاليا بذلك عام 1920، وقد بايعته الأمة الطرابلسية بيعة شرعية في مؤتمر غريان عام 1922، واعترفت به بريطانيا، وكذلك في العام 1947م وفوق كل ذلك بايعه الشعب الليبي يوم 2/12/1950م ملكاً على ليبيا واعترفت به دول العالم كافة. وتلاها جميع دول العالم في ذلك الوقت، وهذا هو الواقع الصحيح، أما جدهم السيد أحمد الشريف رحمه الله فقد عينه السلطان محمد رشاد في زمن الحرب العظمى نائباً عنه في الجهاد فقط وبذلك كان موظفاً تابعاً لتركيا لا أميراً على البلاد ولا ملكاً على البلاد.
وكان قد أنضم بنفسه إلى دولته بعد انهزامه أمام الإنجليز في الأراضي المصرية ثم أنهزمت دولته أيضاً في الحرب العظمى الأولى وقد أخرجته من بلادها أيام مصطفى كمال أتاتورك فلجأ إلى الملك عبدالعزيز آل سعود الذي آواه في الحجاز إلى أن توفاه الله عام 1933م.

الملك يسترد أملاك أحمد الشريف المنزوعة من قبل الإنجليز:
وهذا سبب من الأسباب التي أوجدت ثغرة لتنمية العداوة والبغضاء في نفوس أصحابها أولاد المرحوم السيد أحمد الشريف وثمة ثغرة أخرى سنذكرها في محلها وفي غير هذا المكان من مذكراتنا ولابأس من أن نشير إلى بعض فروعها وذلك بأن السيد أحمد الشريف عندما أعلن الحرب على إنجلترا عام 1916 تمكن الإنجليز من مصادرة أمواله الخاصة وأصوله الثابتة الكائنة في "الواحات الداخلة" في مصر وفي" واحة سيوة" كما صادروا أيضاً أملاك أخيه "هلال" الذي كان يساعد الأتراك ضد الإنجليز، وهي كذلك في "واحة سيوة" وعرض الإنجليز تلك الأملاك للبيع فاشتراها أناس من سيوه، أما الأملاك الكائنة بالواحات الداخلة لم يقدم أحد من أهالي تلك الواحة على شرائها فبقيت في يد الحكومة البريطانية وذلك عام 1917م وفي عام 1922م قمت بشراء أملاك السيد أحمد وأخيه السيد هلال من أولئك الذين اشتروها وأصبحت ملكاً لي بواقع الشراء ودفعت لهم نفس الثمن الذي كانوا قد اشتروها به.
وفي عام 1925م وصل إلى (سيوه) ولدا السيد أحمد الشريف وهما السيد إبراهيم والسيد محي الدين ملتجئين إلى مصر فراراً من الاستعمار الإيطالي، وعملا بما بيني وبين السيد أحمد الشريف من صلات الود ، ورحمة بأولاده وشفقه عليهم فقد منحتهم ريع هذه الأملاك التي أصبحت ملكي وتحت حوزتي وتصرفي بواقع الشراء وذلك لينتفعوا بهذا الريع مدة من الزمن ريثما تتحسن أحوالهم المادية، وأخذوا يستغلونها طيلة عشر سنوات، وأخيراً كثرت الشكاوى من جانب الطليان للحكومة المصرية من تردد السنوسيين على واحة سيوة التي تقرب من الجغبوب المحتلة منهم، وعندئذ طلبت الحكومة المصرية بأن تستبدل منا هذه الأملاك بما يعادلها في أراضي النيل تفادياً للمشاكل مع إيطاليا وقدرت الحكومة المصرية قيمة هذه الأملاك مع مراعاة لنا في ذلك التقدير الذي لا يسعنا إزاءه إلا أن نشكرها والله تعالى نسأل أن يجازيها عنا خيراً، وفي هذه الحالة قمت بتعويض أبناء السيد أحمد الشريف عن ريع هذه الأراضي التي أملكها بمبلغ يساوي ما اشتريته بها سابقاً وبذلك صرت كأنني أشتريت هذه الأراضي مرتين وبثمنين، فدفعت لهم الثمن مضافاً إليه الريع الذي استغلوه طيلة عشر سنوات. عند ذلك استشاط أبناء السيد أحمد الشريف غضباً لا لشئ إلا لأنني لم أتنازل لهم عن الأرض كاملة.


استغلال الظروف:
لقد استغل هذا الظرف بعض من أراء السوء، ومن هؤلاء عمهم السيد صفي الدين وأحميده الريفي ابن خالهم وكان لكلا الشخصين حزازة في نفسه ضدي سيكون محل ذكرى في مكان آخر من هذه المذكرات. واستغل الشخصان هذه المناسبة التي ذكرتها حول الأرض، وأخذا يدفعان أولاد السيد أحمد إلى الغرور بأنفسهم، ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر الواقعة التالية التي لا تقل عن سابقتها في سوء التصرف، كان معي أحد الأخوان المخلصين وهو المدعو الحاج التواتي البرعصي وكان قد أصيب بمرض الطاعون الذي تفشى وقتذاك في ناحية الصحراء الغربية ببلدة "العزبانيات" فكان هذا الشخص من ضحاياه، ووجد السيد صفي الدين والسيد الصديق، وهذا الآخير هو ابن أخي السيد الرضا، وله مطامع في الاستيلاء على أشغالي الخاصة إذا خلا له المكان من إبراهيم الشلحي الذي كان كما سبق وأن أشرنا " يشغل وظيفة ناظر الخاصة الملكية وكاتم أسراري" – وكان قد أشار علي واختاره لي وأوصى به المرحوم السيد أحمد الشريف – والذي كان بالفعل مديراًَ لها و مخلصاً بها وعند حسن ظني- أقول لقد وجدا هذان الشخصان فرصة فأوغرا صدور أخوه المتوفي، وهو الحاج التواتي البرعصي، بأن أخاهم قد مات مسموماً بيد إبراهيم الشلحي، وجاءني أخوة المتوفي يطلبون مني إيصالهم بحقهم من قاتل أخيهم بالسم، واتهموا إبراهيم الشلحي بهذه التهمة، فأبرز لهم شهادة الوفاة الصادرة من مستشفى "العامرية" الذي توفى فيه الحاج التواتي وعرف المدعون أن الأمر لم يكن على ظاهره فاقتنعوا وسافروا إلى ليبيا. إلا أن الاثنين المذكورين، ومعهما البوليس السري الذي تأثر بهما في الأسكندرية والصحراء الغربية، سلكا مسلكاً آخر للإيقاع بإبراهيم الشلحي وأشاعوا بأنه "دسيسه" أي جاسوس لحساب الطليان، وأخذوا يلفقون ضده الوشايات التي ما أنزل بها من سلطان، ومن الغريب في الأمر أن صفي الدين يشركني أحياناً مع إبراهيم الشلحي في هذه التهمة التي يريد إلصاقها به وذلك بواسطة تقاريره حتى أن أعلنت إيطاليا الحرب مع ألمانيا ضد الحلفاء، فأسرعت السلطات البريطانية بواسطة البوليس السري المصري إلى اعتقال إبراهيم الشلحي في بلده "القباري" اعتقالاً سياسياً احتياطياً، وبذلت الجهد الجهيد إلى أن أطلق سراحه بعد أسبوع، وعلمت أنه من المقيدين في القائمة السوداء ظلماً وبهتاناً ذلك لأنني أعرفه شديد المعرفة وأطمئن لإخلاصه وأثق فيه.

السياسة الاستعمارية:
هناك ناحية أخرى لها خطورتها، فمن المعروف والمعلوم عن سياسة الاستعمار أنها تعمل جاهدة ضد كل شخص يتمتع بنفوذه في قومه هي تحاول دائماً إيجاد منافس له، وهكذا صارت سياسة الاستعمار بعد الاحتلال البريطاني لبرقة وبعد أن علمت أن جميع الشعب يدين لنا بالإخلاص، وكان السيد أبوالقاسم بن السيد أحمد الشريف السنوسي، والحالة هذه ضمن ضباط القوة السنوسية التي ألّفناها من المهاجرين البرقاويين في مصر لتحرير بلادهم ولمعاونة الإنجليز في ميدان الوغى ضد الطليان للوصول للغرض الأسمى وهو تحرير البلاد من الاستعمار الإيطالي، وبالتالي العمل على إيجاد الاستقلال التام، وشكل الإنجليز في بنغازي مكتباً أسموه (مكتب الاستعلامات والدعاية) وضموا إليه بعض الليبيين المشهود لهم بالخبث وكان المستر ريد Reed مدير هذا المكتب قد استخدمهم لتغرير السيد بالقاسم المذكور وأخذوا يدسون له السم في الدسم وكان السيد بالقاسم لا يخلو من الغرور أدعاء بنفوذ وشهرة والده السيد أحمد الشريف كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن أولاد السيد أحمد الشريف، وكان أن تسلط المضللون على السيد بالقاسم وبقية أخوته يغرونهم بتصوير الآمال البراقة وطبعاً هذه هي طريقة المغررين للمغرورين.

قوة الحق الناصع تذهب بسحابة الافتراء الباطل:
كان قد أوجدها ونماها السيد صفي الدين السنوسي، ابن عمي ولكنها انطفأت مع الزمن لعدم وجود أساس يبنى عليه، فعندما توفى أخوه السيد هلال السنوسي في مستشفى "الميري" بالإسكندرية من جراء إصابته بمرض الملاريا في "الفيوم" وتطور هذا المرض إلى "سل" وكان يبني وبين المتوفي رحمة الله فتور من جراء لومي عليه في المجاهرة بشرب الخمر وتعاطي الدخان المحرم في طريقتنا السنوسية وكان رحمه الله زوجاً لأختي وله منها ولدان كان أكبرهما في السنة الرابعة والآخر في الثانية. وأغتنم السيد صفي الدين حادثة الوفاة للإيقاع بيني وبين ابن أختي وكان يظن أن أخاه المرحوم هلال قد ترك مالاً مودعاً في البنك، فأبدى حدية على الصغيرين ونشر الإشاعة القائلة، أن أباهما مات مسموماً مني وأن الذي وضع السم للمتوفي هو إبراهيم الشلحي – ناطر خاصتي – غير انه عندما اتصل بالبنوك وعلم بأن ليس للمتوفي أي شئ بها ترك الولدين الصغيرين فتوليت أنا حضانتهما مع والدتهما وهي طبعاً أختي، وربطت لهم مرتباً شهرياً من خاصتي وسعيت لإدخال الولدين في المدارس المصرية مجاناً، وقد ساعدتنا حكومة مصر على ذلك كعادتها مع ضيوفها فلم تبخل بتعليمهما، وهكذا أثبتت الحقائق أن أباهما كان قد توفى بمرض السل وانه لا أساس لتلك الدعاية الباطلة، وانقشعت سحابة الافتراء الباطل بقوة الحق الناصع.
وفي عام 1945 أرسل كامل إبراهيم السنوسي خطاباً للمرحوم إبراهيم الشلحي يهدده بالقتل، وكان الكتاب يحمل صورة خنجر يقطر دماً !!! وعرض المرحوم إبراهيم الشلحي ذلك الكتاب على خبراء الخطوط فأظهروا أنها كتابة كامل إبراهيم السنوسي، وقام المرحوم الشلحي بعرضه على السيد إبراهيم السنوسي والده الذي ظهرت له حقيقة الخط الذي اعترف به ابنه وكان بالإمكان أن يتقدم إبراهيم الشلحي إلى القضاء في مصر للإدعاء على كامل إبراهيم كاتب ذلك الكتاب، لكنه رأى أن كاملاً لا يزال تلميذاً قد تضيع عليه فرصة التعليم فترك ذلك مجاملة لوالده ولا يزال هذا الكتاب محفوظاً بين أوراق المرحوم الخاصة، وقد عثر عليه بعد وفاته.
وفي العام 1949، في إحدى المناسبات، سمع على باشا العبيدي من أحمد الشريف محي الدين يقول جهراً: أن إبراهيم الشلحي لا يخلصنا منه إلا رصاصة، فإذا ما ربط الإنسان بين هذه الأدلة المتناثرة والمتشابهة والمترابطة، فإنه يظهر بالدليل القاطع أو على الأصح بحقيقة ناصعة أنه مؤامرة سافرة تدبر من طرف أولاد المرحوم السيد أحمد الشريف ضد هذا الرجل الذي هو إبراهيم الشلحي لإغتياله وذلك منذ زمن بعيد لا لشئ يطالبونه به ولكن حسداً من عند أنفسهم وللتشفي مني شخصياً بواسطة إرتكاب جريمة قتل وهكذا كانت الأدلة تتوالى على ألسنة من ذكرنا وفي المثل الشعبي المعروف (خذوا أخبار القوم من سفائهم) فبقتل إبراهيم الشلحي بيد أحد أحفاد السيد أحمد الشريف رفع النقاب عن العداء السافر الذي يحمله القوم بدليل هذا الاعتداء السافل، فلسنا إذاً في حاجة إلى التدليل بعد هذه الجريمة على سوء نية القوم نحونا ونحو كل من كان قريباً منا أو في قربه منا منفعة لنا وذلك لمجرد الحسد. 

الجهل بالحقائق ومخالفة تعاليم السلف الصالح:
خلاصة القول أن هذه الحادثة الانتقامية تمخضت عن أفكار مختمرة في تلك الرؤوس الخالية من التعاليم الدينية الصحيحة والآداب الإسلامية والاجتماعية وكانت لحمتها وسداها من الحسد البغيض والتنافس على حطام الدنيا الفانية والألقاب الجوفاء تاركين بمثل هذه التصرفات وراءهم ظهرياً – تراث أجدادهم من ورع وزهد وأخلاق إسلامية وشرف قامت دعائمه على التقوى والعلم والاستقامة وكل ذلك نبذوه خلفهم، وقد ورد في كتاب الله الكريم المنزل على لسان نبيه العظيم ((فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدني ويقولون سيغفر لنا وأن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ، ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)) الأعراف.
وقوله تعالى (( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً)) مريم.
نعم ! لقد أساء إلىَ كل من ذكرتهم من بني عمومتي أساءات كثيرة ومريرة إلا أنها جميعاً لا تذكر ولم تبلغ مبلغ الإساءة التي وجهها إليّ أبناء السيد أحمد الشريف أخيراً فقد ضربوني بالرصاص وعملوا على موتي شخصياً وذلك على ألسنة أبنائهم وبأيديهم في شخص من كنت أعتمد عليه في شئوني الخاصة ولم يكن لي ولد غيره فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن إبراهيم الشلحي رحمه الله كان طيلة حياته شجاعاً مخلصاً لله ورسوله ووطنه لأمته وأميناً على ما أؤتمن عليه صادقاً في أقواله وأعماله ومات شهيداً تقياً نقياً وقد صعدت روحه يوم 5 أكتوبر 1954 إلى الملأ الأعلى لتأخذ مكانها بين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً وإنا الله وأنا إليه راجعون.
انتهت المذكرات بالنص
و إلى اللقاء في التعليق عليها قريباً


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق