الأربعاء، 21 مارس 2012

ذاكــرة الأيــام (الحلقة 6 )


ذاكرة الأيام
الحلقة السادسة
من باب العتب على السيد مسئول ملف الإعلام بالمجلس الانتقالي :
بقلم : إبراهيم السنوسي امنينه
    
  إنه ليس من باب الرياء والنفاق أن أذكر ما يلي :-
     لو أمضى شعب ليبيا ما تبقى له من عمر يمتدح ويشكر ويُكبر ويثني على ما قام به المجلس الوطني بكافة أعضائه من أداء فاق المعتاد من التوصيف بل تجاوز منطقة التميزّ ودخل منطقة الاستحالة في التنفيذ وحققّ الانتصار والتفوقّ – أقول لو أمضى شعب لبيبا بقية عمره يشكر ويمدح ويُكبر ويثني لما كان بوسعه أن يعطى هذا المجلس اليسير من حقّه أو القليل من الاعتراف  بفضله والامتنان لمعروفه وإحسانه ورد الجميل .
إن ما قام به هؤلاء الفتية من عمل جبّار وقيادة حكيمة رشيدة لشباب اختار الشهادة على حياة لا قيمة لها وليس بها غير أنفاس تخرج وأنفاس تدخل، يتحكم فيها طاغية لم أجد له توصيفاً غير فرعون العصر بماله ورجاله – وكأنه هو الذي منح مثل هذه الحياة لهؤلاء .
هؤلاء الشباب الذين قهروه وهزموا كتائبه في الشرق والجنوب والغرب لم تكن أمهاتهم قد ولدتهم يوم 01/09/1969 – اليوم الذي أوهم فيه رفاقه – رفاق السوء ( بأنه هو قائد "الانقلاب"، وأنه هو الذي سيستولى على الإذاعة بعد منتصف الليل ويلقي بيانه وعندئذ تقرع أجراس "الثورة" ) غير أن الذي حصل هو أنه هرب مثل "الجرذ" وأغلق على نفسه باب غرفته في المعسكر الذي كان يسميه "معسكر الخلية الأولى" بقاريونس، ولم يكن ليفتح باب الغرفة حتى قال له أحد رفاقه وهو يطرق عليه الباب بشدّه "لقد سيطرنا على الإذاعة فهيا تعال لتتلو/ البيان الأول للثورة" وعند ذلك فتح لهم باب غرفته وكان تبريره لعودته من الطابور الذي كان في طريقه للإذاعة لاحتلالها وكان يقوده هو، واختفائه في غرفته أنه "كان قد ضلّ الطريق إلى الإذاعة فعاد إلى المعسكر" ،غير أن أحداً من رفاقه لم يسأله لماذا كان يقلد صوت الأنثى وهو يرد عليهم من وراء باب الغرفة "وكان قد غلـّق الأبواب وقال هيت لك" قائلاً منو؟ منو؟ منو؟
  إذاً فرغم أنه كان مدجّجاً بسلاحه وذخيرته وآلياته وعرباته ورفاقه من الخونة، إلا أنه آثر التولـّي عن الزحف والأدبار يوم كان قرّر الزحف واتخّذ القرار، والسبب في ذلك أنه قائد جبان تماماً كالمرتزقة فإن سلاحهم القنص والغدر وليس المواجهة، ويجدر بي هنا أن أعيد ذهن القارئ لما ورد في الأسطر الأولى من هذه الصفحة :-
(( يوم 01/09/1969 – اليوم الذي أوهم فيه رفاقه - رفاق السوء – بأنه قائد الانقلاب، وأنه هو الذي سيستولى على الإذاعة بعد منتصف الليل ليلقي بيانه وعندئذ تقرع أجراس "الثورة"... )) .
 وبعد أن تراءى للجمهور أن الانقلاب قد نجح في تقويض النظام الملكي صفقوا وفرحوا واحتفلوا بتحقيق ما كانوا به يحلمون من تغيير فقط من أجل التغيير، لأنهم ملّوا الرتابة والاستقرار وأنه إذا كان هناك ملك قد تقوض عرشه في شرقي البلاد (مصر) منذ سبعة عشر عاماً (1952) فلماذا لا نخوض نفس التجربة ؟ تلك سنة الحياة فالشعوب درجت على البحث دوماً عن بطل تعبده وتمشي وراءه ولا تزال تطلب منه تحقيق رغباتها التي لا تنتهي حتى تحرقه وتبحث عن آخر، ثم تحرقه هو الآخر وهكذا دواليك، مثلما حدث مع الأنبياء مثل سيدنا موسى وعيسى ويونس ولوط وعزير وأنبياء يهود عليهم جميعاً سلام الله، وملوك في أوروبا وزعماء تؤلههم شعوبهم ثم عندما يملّونهم فإنهم يقضون عليهم ويقتلونهم شرّ قتله، مثل ما حدث لموسوليني في إيطاليا وشاوسيسكو في رومانيا وأنور خوجه في ألبانيا. وما حدث في تلك البلاد سوف يحدث في ليبيا في هذه الأيام لأنه ربما قد آن الأوان أن يُحرق هذا البطل بعد أربعة عقود من القعود على عرش الاضطهاد والفساد والكفر والإلحاد - ربما كفى !!  
  لكن الأمر يختلف تماماً مع أبطالنا الجدد، فلقد كانت مبادرتهم جيدة وذكية ولم يجانبهم الصواب ولم تعوزهم الشجاعة ولم يتسرّب إليهم الخوف : قال الشاعر :-
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ \ فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال على بن أبي طالب "رضي الله عنه" : انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين .
وقال حكيم آخر : انتهزوا الفرصة فإنها خلسة وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه .
وهكذا فإن أبناءنا وأبطالنا الجدد الناضجين المؤمنين المتنورين والمثقفين وثبوا والتقطوا الكرة وسجلوا الأهداف السياسية بنجاح منقطع النظير مستغلين واسع خبراتهم ونافع علاقاتهم وثاقب رؤياهم في انتزاع الاعترافات بدولتنا الجديدة الوليدة، من دول العالم الواحدة تلو الأخرى، وتم تجميد أصول وأرصدة الفرعون وعائلته ومن يدور في فلكه خارج ليبيا حتى يغادرنا بإذن الله حافي القدمين عاري الكتفين خالي الوفاض كما حلّ بيننا في تلك الليلة المشئومة واستفقنا على نعيقه صباح ذلك اليوم .
وشتان بين يوم سقوط كتيبة القهر والذعر والعهر، كما يحلو لي دائماً أن أسميها، وليلة خيانة الشعب والوطن بسقوط الإذاعة، وما تلاها من تخبّط وتيه، وسرقة وقتل طيلة اثنتين وأربعين عاماً.
 فالأولى سقطت بصدور عارية تهتف "الله أكبر"،وكما أسلفت أسقطها شباب لم تكن أمهاتهم قد وضعتهم يوم جاء هذا التنّين المتسلسل تحت جنح الظلام، ولم يتم لهم الحصول على بعض السلاح غير المتكافئ إلا بعد سقوط المئات (400) من الشهداء، أما ليلة خيانة الشعب والوطن وسقوط الإذاعة فليس المجال هنا للحديث عنها – إذ لا معنى للحديث عن شيءٍ كان قد قضى الله فيه أمراً كان مفعولاً .
نعود إلى أبطال المجلس النيّرين الأفاضل الوطنيين الخلـّص فنقول :-   
غير أن هناك أمراً دعاني للتفكير ملياً وللتأمّل جيداً وعبثاً حاولت تمحيص ذلك الأمر لأجد تفسيراً غير أنني لم أهتد .
هذا الأمر هو : من هو صاحب فكرة رفع علم الاستقلال وكيف وأين وجدتموه ؟ وكيف انتشر من الشرق إلى الغرب إلى الجنوب وتفشّى كالنار في الهشيم تحرق أكباد فرعون ومن والاه – علم له معنى وتاريخ – فالشكر والتقدير والامتنان لصاحب الفكرة أينما كان وكائناً من كان .
والآن نفتح باب العتاب :
 عندما أبصرت ذاك العلم يخفق في الشوارع وفوق المباني والصواري ورأيت أبواب المحلات تطلى بدهان يعكس الألوان الثلاثة تتوسطه النجمة والهلال، صرت جذلاناً فرحاً .
ذلك لأنني كنت قد عايشته على مدى ثلاثين عاماً كاملةً وكان قد فارقني اثنتين وأربعين عاماً تنقص ستة أشهر ... يا للهول بل يالصدمة ويا للفرحة التي لم تكتمل إذ أنني بعد أيام قليلة وأنا أستمع إلى النشيد الوطني الملكي الذي أصبح هو نشيد دولة ليبيا الحرة الوليدة، ولقد أدمنت الاستماع إليه في أوقات كثيرة غير أنني لاحظت أن هناك بيتاً مفقوداً، ولم استغرق وقتاً طويلاً لأعرف ذلك البيت المفقود، ولازلت أتذكره وهو :
حىّ إدريس سليل الفاتحين \ إنه في ليبيا رمز الجهاد
فصرت في حيرة من أمري عما إذا كان ذلك البيت قد سقط سهواً أو أن هناك لا يزال من يتحسسّ من النظام الملكي أو الأسرة الملكية نفسها، وربما يظن أن الملك إدريس ليس بسليل للفاتحين حقاً ! فأسقط عمداً ذلك البيت، وتبرير ذلك ربماّ يكون مجاملة للبعض الذين يتحرجون من ذكر تاريخ السنوسية والأدارسة وأدعو الله ألاّ يكون لهم وزن ولا قيمة ولا وجود مع قادتنا الجدد حتى يتحرجون ويتأففّّون من ذكر أمجاد وتاريخ ولاتنا الصالحين الذين كانت نشأتهم في بيت دين وعلم وفضل وشرف لا ينازعهم في ذلك أحد بما في ذلك المتأفّفون! وإننى لأتساءل كيف مر هذا التلاعب الخبيث، والذي وراءه ما وراءه،مرور الكرام دون أن يلاحظه السيد مسئول الإعلام .   
 وهذا مما يدفعني أن أحاول جهدي محو هذا الجهل والأمية التاريخية الإسلامية عن هؤلاء البعض والله أسأل الهداية والرشاد والعودة للجادة آمين .
  فالسنوسية حركة دينية وفكرية وثقافية ودعوية إصلاحية وسلفية أفرزتها جملة من العوامل الداخلية والخارجية التي ألمتّ بالمنطقة الشمال إفريقية المغاربية غداة القرن 13 الهجري التاسع عشر الميلادي، ولقد نشأت وتشكلت هذه الحركة الدينية على الصعيد الداخلي بتأثيراً العوامل التالية :-  
1-  الضعف والانهزام السياسي والعسكري الذي آلت إليه الكيانات الحاكمة في المنطقة المغاربية بداً من سقوط إيالة الجزائر العثمانية فريسة في يد الاستكبار الفرنسي  عام 1830 م .
2-  انتشار الخرافة وسيطرة الوهم وتسلطّ عقيدة الجبر الفاسدة، وشيوع المفاهيم الخاطئة والمعطلة لتعاليم الدين الإسلامي .
3-   التراجع والأفول الحضاري العربي الإسلامي، أمام الهيمنة الاستكبارية الصليبية الغربية .
4-  الفساد الاجتماعي والأخلاقي مع التراجع الاقتصادي والتجاري والصناعي والزراعي المزري الذي ألمّ بشعوب المنطقة .

    وعلى الصعيد الخارجي، فقد شكلّت الحركة السنوسية حلقة منيرة في سياق سلسلة الوعي واليقظة الحضارية الإسلامية التي بدأت تعرف طريقها إلى العالم الإسلامي في العصر الحديث بدءاً من حركة الإمام الشوكاني المتوفي عام 1835م، والأمير عبد القادر في الجزائر المتوفي عام 1883م.
  وقد جاءت هذه الحركة الدينية الإصلاحية لتجسيد تعاليم الدين الإسلامي في واقع الناس وذلك وفق مفاهيم وشروحات وتوجيهات الإمام السنوسى لأتباعه فهي لم تكن مجرد حركة فكرية نظرية تهدف إلى فهم الواقع وتحليله، وتقديم الطروحات والحلول لمشكلاته المختلفة فحسب، بل كانت حركة إصلاحية ودعوية واعية شملت الجوانب (التنظيرية) وتطبيقاتها العملية معاً . وقد وجدت كردة فعل إيجابية على الاحتلال الفرنسي للجزائر بادئ ذي بدء، بحيث عمل الإمام السنوسي على تكوين أتباع طريقته، ومحاولة توحيد مسلمي المغرب الإسلامي تحت راية زاويته البيضاء بغية الحفاظ على آخر ما تبقىّ من حصون مانعة ومقاومة في الأراضي الإسلامية، ومحاولة الوقوف بشكل قوي ومنظّم في مواجهة حملات الاستكبار الصليبي الزاحف عليها، والعمل على نشر الإسلام والحفاظ عليه في أواسط إفريقيا، والحد من تغلغل النفوذ الصليبي الاستكباري التبشيري إليها .
 وقد سعت الحركة السنوسية بما توفر لديها من المسائل البسيطة المتاحة من أجل الحفاظ على الوجود الديمغرافي والجيواغرافي للإسلام في إفريقيا عبر إتباع نظام الزاوية الذي حاولت به بناء قوة عربية وإسلامية متكاملة متعاضدة بغية النهوض بالإسلام والمسلمين، وذلك عبر زواياها الكثيرة التي انتشرت على نحو مكثــّف وملحوظ في منطقة الصحراء الإفريقية وفق نظام مؤسساتي شرعي في ضوابطه وأطره المرجعية، محكم في نظامه وهيكلته ، دقيق في بنائه وتسييره، مؤسس فوق ذلك بكمّ متناسق من المحدّدات والأطر المرجعية للدين الإسلامي .
   وقد سعت هذه الحركة السلفية الإصلاحية التي تتشابه مع الحركة الوهابية من حيث مناخ وظروف نشأتها، ومن حيث موقعها الجغرافي الصحراوي ومن حيث المؤثرات الخارجية والداخلية المحيطة بها وذلك للعودة بالإسلام والمسلمين إلى أصوله السلفية الأولى، وفق تصور نظري وعملي بسيط ومتواضع ومتكامل قوامه، للأركان التالية :-
1-  تطهير العقيدة الإسلامية مما علق بها من الأوهام والخرافات والبدع ( العامل الثاني من العوامل الأربعة المنصوص عليها فيما تقدّم والتي كان لها كل التأثير والتحفيز على نشوء هذه الحركة المباركة ) .
2-  توحيد العالم الإسلامي على الصعيدين المعتقدي والمذهبي ونبذ التعصب الأصولي والفرعي، كما هو حاصل الآن في المشرق العربي (العراق – سوريا – لبنان وأقطار أخرى عربية وإسلامية ) .
3-   نبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد على سائر المذاهب وعدم التقيدّ بمذهب فقهي واحد (يا ليت قومي يفعلون )  .
4-   نشر الإسلام في صحراء إفريقيا ( وهذا ما فعل الإمام جدّ إدريس سليل الفاتحين ) . 
5-   الوقوف في وجه التغلغل والنفوذ الاستكباري ( الفرنسي الانجليزي ) في إفريقيا .

 كان هذا ملخصاً لحركته الدعوية الدينية الإصلاحية وفيما يلي ملخص لأصوله وجذوره الكريمة، وللاستزادة والتفصيل يمكن للمواطن المعترض أو المستهجن للبيت الذي ورد في متن النشيد القومي لدولة الاستقلال الذي يقول :-
حيّ إدريس سليل الفاتحين \ إنه في ليبيا رمز الجهاد
  ولم يعجبه وقام بحذفه وتسجيل النشيد بدونه على أقراص مدمجة تم بيعها أو توزيعها على القنوات الليبية وغيرها، ومن ثم إذاعتها على الجيل الذي لم يسمعه ولم تتعّود عليه أذنه فكيف له أن يعرف ما حذف منه (ويا ليت قومي يعلمون )، يمكن لمثل هذا (الأخ المعترض ) أن يقرأ في ما يلي من أسماء لكتب تناولت سيرة هذا الإمام، وهي غيض من فيض، وكُـتـّابها ومؤلفوها عرب و أفرنجة وأتراك + مسلمون ومسيحيون ودروز وسنيّون وشيعة كلهم أرّخوا لهذا الإمام وحركته واجتمعت كلمتهم وتوحدت على سيرته                وهؤلاء هم :
انجليزي
Pritchard E. Evans
كتاب السنوسيون في برقة
انجليزي
Lothrup Stoddard
حاضر العالم الإسلامي
ترجمة عجاج نويهض
وقدم له شكيب أرسلان 
تونسي
الحشائشى
رحلة في بلاد السنوسية
مصري
محمد فؤاد شكري
ليبيا الحديثة
مصري
محمد فؤاد شكري
السنوسية دين ودولة
فلسطيني
أحمد صدقي الدجاني
الحركة السنوسية في القرن 19
مصري
محمد عبد الهادي شعيره
سيرة السنوسي الكبير
تركي
أحمد حلمي شهبندر زاده
الذكرى المئوية لوفاة ابن السنوسي
لبناني
بطرس البستاني
دائرة المعارف – المجلّد العاشر
مصري
مغربي
عبد المتعال الصعيدي
أبو العباس الناصري
المجدّّدون في الإسلام
الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى
جزائري
د. أحمد العيساوي
نشر الإسلام في صحراء إفريقيا (مقال)
تركي
صادق المؤيد العظم
سياحتي في صحراء إفريقيا الكبرى
ليبي
مصطفى بعيو
دراسات في التاريخ العربي
( الجمعية التاريخية لخريجي كلية الآداب بجامعة الإسكندرية )
ليبي
محمد الطيب الأشهب
السنوسي الكبير
ليبي
محمد الطيب الأشهب
محمد المهدي السنوسي
ليبي
محمد الطيب الأشهب
محمد إدريس المهدي السنوسي
ليبي
محمد الطيب الأشهب
برقة : العربية بين الأمس واليوم
لبناني
نقولا زيادة
برقة الدولة العربية الثامنة
لبناني
نقولا زيادة
السنوسية
انجليزي
E.I.F DE CANDOL
إدريس وعصره
ليبي
الأخضر العيساوي
رفع الستار عما جاء في كتاب عمر المختار


  وهل هذا الكمّ من الكتب والمراجع كثير على ذلك (الأخ) المعترض المستهجن والحاذف – ليقرأ حتى يعلم ويستبين له الرشد من الغيّ ؟ بالطبع لا ليس بكثير  بل غيض من فيض ، وأنصحه أن يعتبر ويتأمل في قول الحكيم الشاعر :-  
كيف يٌحجب الحق والحق أبلجُ \وكيف يستقيم الظل والعود أعوج ؟
كان ما تقدم من سطور موجزاً عن حركة الإمام السنوسي الدعوية الدينية الإصلاحية، وفيما يلي( نسبه وجذوره الكريمة الذي اتفقت عليه جميع المصادر ومن ثم فروعه ونسله ومنهم الملك محمد إدريس المهدي السنوسي – سليل الفاتحين – رغم أنف الأميين - رحمه الله ) :-
 هو السيد محمد بن على السنوسي بن العربي بن محمد بن عبد القادر بن شهيده بن حم بن القطب يوسف بن القطب السيد عبد الله بن علي خطاّب بن علي بن يحي بن راشد بن أحمد بن المرابط بن منداس بن عبد القوي وهو أحد أمراء تلمسان بن عبد الرحمن بن يوسف بن زياد، أحد ملوك المغرب الأقصى بن زين العابدين بن يوسف، عاشر ملوك الريف بن حسن تاسع الملوك المذكورين بن إدريس ثامن الملوك بن عبدالله بن أحمد سابع الملوك بن محمد سادس الملوك بن عبد الله خامس الملوك بن حمزة رابع الملوك بن سعيد بن يعقوب ثالث الملوك بن حمزة بن على ثاني الملوك بن عمران أول ملوك الريف بن إدريس الأصغر أمير المسلمين ومؤسس مدينة فاس بن إدريس الأكبر أول الخلفاء الادارسة بالمغرب بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الإمام السبط وهو ممّن تولوّا الخلافة الإسلامية بن على بن ابي طالب من فاطمة الزهراء بنت سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام ( ليس فقط سليل الفاتحين بل سليل الملوك والأشراف ) .
  ولد رضي الله عنه ليلة الاثنين 12 ربيع الآخر عام 1202 هـ الموافق 12/12/1787م وذلك في السنة الثانية من القرن الثالث عشر ببلدة مستغانم مقر آل الخطاب بالجزائر .
 ما مّر بنا حتى الآن هو ملخص لترجمة الإمام محمد بن على السنوسي والآن نمرّ مرور الكرام لنتعرف على الأسس والأصول الفكرية التي دعا إليها هذا الإمام ولقنّها لأتباعه وهذه الأسس والأصول في حركة هي : ( فكر وحركة ) و ( تصوّر ومنهج ) و                      ( ومنهج وعمل ) وليست مجرد دعوة فكرية أو مذهب عقائدي وحسب إذ يقول الأستاذ أحمد حلمي زاده ( تركي ) وهو أحد مؤرخي الدولة العثمانية .
( إن الطريقة السنوسية هي عبارة عن جمعية مذهبية وطريقة صوفية وسياسية واجتماعية، ولو أنها من الناحية السياسية ليس لها أهداف تمردية انقلابية على الدولة ) . أي أنها لا تحارب دولة الخلافة بل ترفدها وتسندها، وقد نشأت في ظلـّها .
 ويمكن إجمال الأسس الفكرية والتصورات التي تبنتها الدعوة السنوسية فيما يلي :
أولاً : دعوة الناس كافة إلى الالتزام بأحكام الإسلام الظاهرة والباطنية، ذلك أن المسلمين في تلك الحقبة كان قد انتشر بينهم الجهل وقلـّة الالتزام، فكان تعليم الناس أحكام الشريعة هدفاً أساسياً وأولياً لتحقيق معنى الإسلام .
وتبرز عالمية الدعوة عند الإمام من الحرص على إنشاء زواياه في كل مكان استطاع الوصول إليه، فأول زاوية أنشأها كانت في الحجاز، ثم في مصر ثم في ليبيا وتلا ذلك الجزائر ثم تشاد ومالي، ذلك أن الإمام كان قد تنبّه إلى ضعف جهلهم بالقرآن وبأحكام الشرع وقلة الالتزام بأركان وقواعد الإسلام .
ثانياً : ومن خصائص وأسس هذه الدعوة ما يمكن تسميته بـ ( سياسة عدم المواجهة مع الاتجاهات الإسلامية ) انظر كيف واجه طاغيتنا الذي بلينا به الاتجاهات الإسلامية المعارضة في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكيف قذفهم بقنابل النابالم  الحارقة والغازات السامة في الجبل الأخضر وعلى تخوم مدينة درنة - ولو أنه أتبعّ سبيل هذا الإمام  وهو حظر المواجهة لما تطور الأمر إلى أسوأ الأحوال وهو ما حدث من تقتيل بالجملة في سجن "أبو سليم" يوم 28/06/1996 م .

   وهذا يتضح جليّاً من خلال عدة مواقف للإمام، مثل موقفه من الحركة المهدية ودعوتها، حيث بعث إليه محمد أحمد المهدي، صاحب الدعوة المهدية في السودان كتاباً فلم يرد عليه بنفي ولا إثبات – حيث ادّعى المهدية أي أنه ادعى أنه هو المهدي المنتظر، فلم يواجهه مع رفضه لفكره، وأيضاً عدم مواجهته الدعوة الوهابية في الجزيرة، مع أنها كانت ترى بطلان مبادئ الإمام السنوسي المتمثلة في التصوف والمعتقد السني في الأشعري !! ورغم ذلك فلم يُؤْثَر على الإمام السنوسي كلمات أو ردود على تلك الطائفة .
 رغم أن حركة الوهابيين هذه بحاجة إلى دراسة وتقييم لفكرها من وجهة نظر غير متعصبة، ولبيان مدى توافقها من عدمه مع منهج أهل السّنة والجماعة، وبيان حقيقة انتمائها المذهبي، وبيان مواقفها السياسية منذ نشأتها إلى يوم الناس .
 ومن أدبيات الإمام ضمن إرشاداته لمريديه وتلاميذه ما يلي :
إنكم تعلمون أن مادة الخصام ليس من دأبنا وقد علمتم أن شأننا هو امتثال قوله r :                ( من ترك الجدال وهو مبطل بنى الله له بيتاً في الجنّة، ومن تركه وهو محق بنى له الله بيتاً في وسطها ومن حسن خُلُقُه بنى الله له بيتاً في أعلاها ) .
ومن تعاليمه أيضاً :" إن شأن أهل الله أن يكونوا أرضا لمن سواهم، يحملون من الأذى حملها، وينتجون خيرها أما الخوض والجدال في الأمور الاعتقادية فهو الطامة الكبرى والداهية الغرّّّى " .
    ويمضي الإمام في تعاليمه قائلاً : " ويجب التنبيه هنا إلى أن هذا المبدأ لا يعني تمييع القضايا كما قد يفهم البعض، بل هو مبدأ ينطلق من العلم الشرعي الصحيح، واختيار الرأي الصحيح والترجيح، ثم بعد ذلك لا نلتفت للخلاف، فهنا الخلاف ليس معوقاً للحركة وإنما هو رصيد تختار منه ما تراه صواباً وحقاً ثم تتجاوزه ولا تقف عنده " .
 " وأيضاً لا تقبل الدعوة البحث في الأمور العقائدية، ذلك أن العقيدة أمر لا يسع ولا يجب الخلاف فيه لأنها أي العقيدة متقرّرة وثابتة ومتوارثة عبر أجيال المسلمين " .
 ولو كان طاغيتنا قد اطّلع على هذه المفاهيم والتعاليم والإرشادات واعتنقها وسار على نهجها لما تطوّر الجدال واشتط النقاش بينه وبين السيد موسى الصدر إمام الشيعة في لبنان خلال زيارته إلى ليبيا بدعوة من الطاغية في شهر أغسطس عام 1978م من القرن الماضي – تلك الجلسة التي انتهت بإصدار الأمر بإعدام هذا الإمام ورفيقيه                   (عباس ويعقوب) إلى أحد ضباط الطاغية والذي اسمه "نجم الدين اليازجي"، وسوف تتضح تفاصيل هذه الجريمة بعد انتهاء نظام هذا الطاغية مثلما سوف تتضح أمورٌ أخرى .
 ترى ماذا لو اختار الطاغية  مبدأ نصيحة أو فلسلفه أو رؤية الإمام السنوسي التي تقول : 
  " هنا الخلاف ليس معوقاً للحركة وإنما هو رصيد تختار منه ما تراه مناسباً وحقاً، ثم تتجاوزه ولا تقف عنده " .
ترى لماذا لم يخطر على بال الطاغية أن يطبقّ هذا المبدأ ؟ !
وتأتي الإجابة :-
1)  لأنه من المقدّر في اللوح المحفوظ والطاغية لم يزل في رحم أمه اليهودية أنه سوف يأثم بقتل هذا الإمام الضيف مع رفيقيه بدم بارد وعن سبق إصرار وترصد بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً .
2)  إنه لا يقرأ، وإن قرأ فلا يفهم إلا الذي يريد أن يفهمه ويؤمن به وتنتج عنه مصلحة يستفيد منها هو ،ولذا فإنه لا يؤمن بالكثير من آيات القرآن الكريم وبالتالي فإنه لا يحفظها، بل ويفسرها كيفما شاء، خدمةً لسياسته وأهدافه، ويحاول إقناع مستمعيه بحذف بعض آيات من بعض سور لا سيما إذا كانت هذه الآيات مخاطباً فيها الرسول r .
ثالثاً : من الأمور التي تميزّ هذه الدعوة عن غيرها من الدعوات في ذلك العصر هو رؤيتها الصحيحة للوضع السياسي، ولذا نراها لا تواجه الخلافة العثمانية، وتعتقد في صحتها، وإن كان هناك بعض الملاحظات من أهمها الضعف الديني وعدم استيفاء بعض الشروط كشرطية "القرشيّه" في الخليفة، ولم توجّه حربتها إلي صدر الخلافة رغم ذلك .
 هذا في حين نجد أن الدعوة الوهابية قد حملت السلاح في وجه دولة الخلافة، والحركة المهدية لم تعتبر ولم تقم للخلافة وزناً، مما يفسرّ لنا سبب رضا الدولة العثمانية للحركة السنوسية، لذا فإن الدولة العثمانية أصدرت مراسيم تبينّ فيها رضاها عن الحركة وتقرّ فيها أوقاف الحركة وزواياها وتوصي بدعمها .
وفي رأي المرحوم أحمد صدقي الدّجاني أن الإمام مع إيمانه بأحقية القرشيين بالخلافة لم ير وجوب إثارة موضوع الخلافة، لأنه رأى أن من غير المناسب وليس من مصلحة المسلمين إثارة هذا الخلاف حول الخلافة، ولذلك ركزّ تفكيره على جوانب الإصلاح الأخرى .

         (يتبع في الحلقة القادمة ) .....

    












      وفي المقابل نرى الإمام السنوسي يعد ويستعد للمواجهة مع الدول الغربية التي احتلت الجزائر في تلك الفترة، فوجّه اهتمامه إليها. ولا شك أنه تأثرّ بهذا الحدث في العالم الإسلامي، فلم يستطع السكوت فيما بعد، فكان يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله ضد النصارى والكفار المحتلّين المستكبرين المبشرين بالصليب .
وهذا أمر شعر به الفرنسيون وتنبهوا له . لذلك فإن الرحالة الفرنسي " وفريد "                      قال في ذلك :
 " إن السنوسية هي المسئولة عن جميع أعمال المقاومة ضدنا في الجزائر "                    إلى أن يقول :
" إن الحقيقة التي يجب ألا نغفل عنها أو نتغافلها هي أن الطريقة السنوسية أخطر الأعداء على نفوذنا – نحن الفرنسيون – في شمال إفريقيا وفي السنغال، وأنها العقبة الكأداء في سبيل توسعنا السياسي والاقتصادي داخل إفريقيا " .
 وهذا ما جعل الحكومة الفرنسية توصي إلى الدولة العثمانية بأن الحركة السنوسية – كما جاء في كتاب : الحركة السنوسية ونشأتها في القرن التاسع عشر للمرحوم الدكتور أحمد صدقي الدجاني – تدعو إلى إضعاف الدولة العثمانية مما أثار شكوك الأخيرة، لكن تبينّ من خلال من أرسلته إليهم كذب الحكومة الفرنسية فلم تعبأ بها .
 يجب على المسلم المعاصر أن لا يغفل عن عدوّه الحقيقي، وأن يكون ذا نظر ثاقب للأمور، وذا بصيرة نافذة يحللّ بميزان الإسلام الطرق والوسائل التي يتعامل بها مع الآخرين .
 وكم جرّ على الحركات الإسلامية من مآسي جهلها بعدوّها الحقيقي !!
فتراها تهاجم في غير عدو وتقاتل في غير مقتل، كأولئك الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على مسائل فرعية ظنيّة يرفعونها لرتبة القطعيات والمسلّمات، ويصفون مخالفيهم فيها بالابتداع والضلال مع أن الحق في الأغلب الأعم ليس معهم، والله المستعان على كثرة الجهل وقلّة العلم !!
فليست الحركة السنوسية إذاً مجرد حركة صوفية خرافية كما يقول بعض السذج، وبعض العلمانيين، وبعض المتطرفين من يسار ويمين، وإنما هي نهج تربية وجهاد وعلم وعمل ومصحف وسيف وفكر وحركة .   
رابعاً : ومن آراء السيد محمد بن على السنوسي البارزة هي دعوته إلى العمل بالكتاب والسنّة في المجال الفقهي، ورفضه للتقليد الذي أوجبه المتأخرون وحملوا الناس عليه، وأغلقوا باب الاجتهاد !!
والمقصود هنا أمثال الشيخ عليش والبولاقى والحنيش، الذين بالغوا في تخطئته إلى حدّ تكفيره واعتباره مبتدعاً في الدين، وقيل أن الشيخ الحنيش هذا حاول زيادة على ذلك أن يدس السم للسيدّ للتخلص منه . ( وكان السيد إدريس سليل الفاتحين قد نفى هذه الجزئية وأنكرها ).
وكان الإمام قد حضر إلى مصر الأزهر في العام 1824م في عهد محمد على باشا.  (محمد فؤاد شكري من كتاب السنوسية دين ودولة ) .
وهذا لا يعني رفض الاجتهادات التي جاء بها الأئمة الأربعة واستقر عليها عمل الأئمة قرونا ودهوراً وإنما هو نظر واستدلال .
ومع هذا فقد كان الإمام السنوسي  يفتى بمذهب الإمام مالك مع إدعائه الاجتهاد، ذلك لأن المسلمين في بلاد المغرب الإسلامي (من ليبيا إلى الأندلس) يتبعون عقيدة الأشعري وفقه الإمام مالك. فهو يرفض القول بإقفال باب الاجتهاد ولكن لا يعني هذا إنه يولج بلا شروط وبلا ضوابط – كما نرى بعض الناس يفعل .
خامساً : ومن الخصائص التي امتازت بها الحركة السنوسية هي الربّانية المتمثلة في الطريقة الصوفية السائرة على منهج الكتاب والسنّة . فالطريقة الصوفية هي وسيلة للترقىّ بالنفس وتهذيبها ومعالجتها من شهواتها الفاسدة وتطويعها لله سبحانه .
كان هذا ملخصاً لترجمة الإمام محمد بن على السنوسي وحركته الدينية الفكرية الثقافية الدعوية الإسلامية السلفية السنيّة التي أفرزتها جملة من العوامل الداخلية الإقليمية والخارجية بالمنطقة المغاربية، ولقد أوجزت كثيراً ولكن ليس إلى حد التقصير وعدم الوفاء بالحق، إنما بدواعي مراعاة عدم الإطناب والإسهاب وتطرّق الملل للقارئ بل إتباع مبدأ ما قلّ ودلّ .
إذن كانت هذه ترجمة للجانب السياسي والدعوى للطريقة السنوسية وفي ختامها نوضح أنه ما أن استقر الإمام السنوسي في واحة الجغبوب وأنشأ فيها زاويته البيضاء عام 1856م واتخذها مركزاً ومنطلقاً لدعوته حتى غدت مؤسسة متكاملة تضم جميع مرافق الحياة الدينية والدنيوية .
   وتسامع الناس به فزحفوا نحوه بالآلاف ما بين طلاّب علم ومريدي طريقه، وأنصار دين من كل صوب وحدب وصار الإمام السنوسي يرسل الدعاة والمريدين والإخوان المحبيّن إلى جميع أنحاء ليبيا والسودان وأواسط إفريقيا إلى النيجر وبحيرة تشاد التابعة لنفوذه .   
ويجب اعتبار ما قام به طيلة حياته من تلقّى علم وتلقين وبحوث في علم وتدريس علم للدعاة والمريدين والطلبة والمحبين ثم إرسالهم موفدين لنشر الدين الإسلامي وتوعية من هم جاهلين في مجاهل إفريقيا وتلقينهم أصول الدين والشرع ليعّلموا غيرهم ويتخرج على أيدهم معلمين وهكذا – أقول إنه يجب اعتبار كلّ ما قام به الإمام هو بمثابة جهاد وفتح فالفتح بالعلم صنوٌ للفتح بالسيف، فالفتح بالعلم يغني عن الفتح بالسيف بل ويقوم مقامه، وأما الفتح بالسيف فليس بالضرورة أن يؤدي إلى علم أو حتى إيمان بدليل وجوب الجزية على من يرضخون للفاتح سياسياً ولكن من ناحية الدين فإنهم يبقون على حالهم مع جواز دفع الجزية .
إذاً فالسيد الإمام الذي نحن بصدد الترجمة له يعتبر فاتحاً وكذلك ابنه السيد محمد المهدي وابنه السيد محمد إدريس فإنهما يعتبران سليلين للفاتحين، ولا مراء في ذلك .
توفي الإمام في العام 1859م عن عمر يناهز الثانية والسبعين معقباً كلاً من السيد               محمد المهدي الذي كان قد ولد في قرية "ماسّة"  أو "مسّه" بالقرب من مدينة البيضاء              ومحمد الشريف الذي ولد بزاوية "درنة"، وخلف الإمام ابنه الأكبر محمد المهدي والد السيد  محمد إدريس - سليل الفاتحين - الذي نحن بصدد الترجمة له ولوالده ولجدّه، ولابن عمه السيد أحمد الشريف.
أزداد في عهد هذا الوارث للرسالة محمد المهدي عدد الزوايا السنوسية إلى أن بلغت (123) زاوية منها (45) زاوية في منطقة برقة و (8) زوايا في منطقة طرابلس و(15) زاوية في منطقة فزان و(6) زوايا في واحة الكفرة و(14) زاوية في السودان، و(21) زاوية في صحراء مصر و(11) زاوية في بلاد المغرب الأقصى و(3) زوايا في تونس .
وقد تابع السيد محمد المهدي جهود أبيه الدعوية والإصلاحية حتى بلغت الطريقة السنوسية أوجها في عهده فتعدى نفوذ الزاوية ليبيا ومصر والجزائر والمغرب حتى وصل صحراء إفريقيا، وغداً الإمام محمد المهدي بمثابة الحاكم الروحي والزمني للمنطقة حتى وصفت المصادر التاريخية الأوروبية الطريقة السنوسية بالإمبراطورية السنوسية              THE  SENUSSI  EMPIRE .
     وقد نقل الإمام محمد المهدي – والد سليل الفاتحين – مقر دعوته من زاوية واحة جغبوب إلى الجنوب في أقصى القطر الليبي بمحاذاة تشاد وإفريقيا الوسطى والسودان الأوسط في واحة الكفرة عام 1895م، وذلك لاعتبارات عديدة أهمها :
1-  خلافه مع الإمام محمد أحمد المهدي السوداني ورفضه التعاون معه لأن هذا الأخير كان قد أرسل نائبه إلى المهدي السنوسي ليكون تابعه فرفض مبايعته، وتجنباً للصراع الإسلامي الإسلامي ترك المنطقة المحاذية للسودان لسلطة  الإمام المهدي لأن منهج الطريقة السنوسية يأمر بالمسالمة مع عموم المسلمين ويفضّل العمل على نشر الإسلام، والتفرغ لمقاومة النفوذ الاستكباري الصليبي التبشيري المتغلغل في المنطقة، وبهذا الأسلوب فإن السيد الإمام محمد المهدي يطبقّ منهج السنوسية الذي وضعه وانتهجه والده الإمام وأحد بنوده : "تجنب الدخول في الصراعات الجانبية مع الأطراف الإسلامية واختياره لمنهج المسالمة معهم"، كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
2-  خلافه مع الدولة العثمانية التي توجست منه أن يكون نسخة مكررّة عن حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب، فاضطر إلى الابتعاد عن مناطق نفوذها عملاً بمبدأ المسالمة لكل المسلمين .
3-  الابتعاد عن النفوذ الأوروبي الذي بدأ يتغلغل في المنطقة لا سيما بعد محاولات فرنسا وبريطانيا التغلغل في الصحراء الإفريقية وخصوصاً بعد أن تمكنت فرنسا من احتلال (أدرار وعين صالح وتمنراست) في أقصى الجنوب الجزائري .
4-  الاقتراب من أواسط إفريقيا وبالقرب من مدينة (واداي) في تشاد التي اعتنقت السنوسية وصارت من أهم الزوايا السنوسية، ومحاولة توسيع نفوذ الزوايا السنوسية. ولما أحسّ الإمام محمد المهدي بما يبيتّه له الفرنسيون من الكيد بعدما تبيّن لهم نشاطه الدعوي المكثف في نشره الإسلام في مستعمراتهم الإفريقية الوسطى – انتقل من واحة الكفرة إلى واحة (قرو) بين تشاد والنيجر ليكون قريباً من الصراع مع الفرنسيين، متخذاً هذه الواحة مركزاً للحركة حتى وفاته بعد الانتقال إليها بثلاث سنوات (1902م). وعندما وصل إلى واحة (قرو) هذه كان برفقته أفراد أسرته وكبار الإخوان وشيوخ الزوايا وأعيان القبائل .
     أما أبرز الأحداث التي جرت في السودان الأوسط فكانت تتعلق بازدياد سطوة شخص يسمى "رابح" وظهور الخطر الفرنسي . ورابح هذا واحد من عبيد الزبير باشا رحمت، كان قد اشترك في ثورة سليمان بن الزبير ضد سلطان الحكومة المصرية في بحر الغزال حتى إذا ما انهزم سليمان وقُتل وأخفقت الثورة 1879 جمع رابح فلول الجيش وانسحب إلى "دار مغنا" "حسب ما أورده فؤاد شكري في كتاب السنوسية دين ودولة" .
"واستميح القارئ عذراً في الإطالة والإطناب وعذري هو محاولة محو الجهل وتوسيع آفاق الحاذفين والمتأففين عن ذكر سليل الفاتحين" ولازلنا بصدد ذلك .   
وبدأ يشنّ الغارات على المناطق المجاورة واستولى على "الباقيرمي" في عام 1892، واحتل مملكة بورنو وأسس لنفسه ملكاً مستقلاً على ضفاف نهر الشاري الذي يصب في بحيرة تشاد، وفي نفس الوقت كان الفرنسيون قد ركّزوا اهتمامهم على تلك الجهات بعد أن وطدّوا سلطاتهم في جهات السنغال الأعلى عام 1865، وفي النيجر عقدوا اتفاقاً مع الانجليز عام 1890 اعتبر معظم الصحراء الوسطى والغربية منطقة نفوذ فرنسية، واتفاقا آخر مع الألمان عام 1894 لاعتبار الأراضي الممتدة حتى بحيرة تشاد مناطق تخضع للنفوذ الفرنسي أيضاً، لذلك تضايقوا من نشاط هذا "الرابح" وشعروا بخطر مملكته عليهم، ولكي يعملوا على ضربه استمالوا سلطان "الباقيرمى" الذي أرغمه رابح على الفرار وقد حاول الإمام المهدي الذي شعر بخطر تدخل الفرنسيين أن يؤلف بين قلوب سلاطين تلك الممالك الصغيرة ويدعو إلى السلام، غير أن محاولاته لم تنجح بسبب العداوات الشديدة بينهم، ونجح الفرنسيون باستمالة سلطان الباقيرمى الهارب. ولم تلبث الحرب أن نشبت بين رابح والفرنسيين الذين كان يقود حملتهم "القائد برينونه" فانتصر "رابح" انتصاراً عظيماً عام 1899 . ثم أرسل الفرنسيون قائداً أخر فنجح في إجلاء رابح عن "كانو" في أكتوبر من تلك السنة، وشرع الفرنسيون بالتهيؤ للقضاء عليه نهائياً، ونجحوا في تحقيق ذلك في معركة "بحته" التي قُتل فيها رابح في شهر إبريل 1900م، وخضعت لهم سلطنته وباتوا يهددّون "كانم" وكان السيد المهدي والد السيد إدريس مهتماً بتلك الأحداث لأن خطر الفرنسيين يهدّد حركته وزواياه تهديداً مباشراً، ولذلك انتقل إلى "قرو" وبدأ يتهّيأ لمجابهة الخطر الفرنسي .
وفي أثناء إقامته في "قرو" أرسل محمد البرّاني إلى "كانم" فبنى زاوية في "بير علالي" وطفق يجمع جيوشاً من قبائل التبو والطوارق وأولاد سليمان والزوية والمجابرة لمواجهة الزحف الفرنسي "نذكر بأننا نتحدث عن فاتح يجاهد ضد الهيمنة والاستكبار والاستعمار الصليبي على أرض المسلمين ويحشد القبائل من أجل نصرة الإسلام وسوف يستشهدون في سبيل الله والدين .. وهذا الفاتح هو السيد المهدي والد السيد إدريس السنوسي سليل الفاتحين".
وقبل أن يبدأ الفرنسيون حربهم ضد السنوسية مهدوا لها بحرب دعائية مركّزة في جرايدهم قصدوا منها تأليب الرأي العام الأوروبي على السنوسية وزعيمها زاعمين أنها تعادى النصرانية وتقاوم التبشير الصليبي وتتهيأ بالمعّدات الحربية لمقاتلة أهل الصليب. وقد كتب الرحالة التونسي الحشائشى في جريدة الحاضرة التونسية مقالاً أنكر فيه ونفى هذه التهم. ويبدو أن المقال كان قد كتب قبل نشوب الحرب السنوسية الفرنسية وبعد مقتل رابح، ومما جاء فيه دفاعاً عن السنوسية : " ... وهم لا يخوضون في ما لا يعنيهم كالاشتغال بالسياسات فذلك عندهم كالمحرمات، وما أشيع عن السنوسي من أنه مستعد للحروب ويدّخر الأسلحة المتقنة يحصل عليها من أوروبا وأنه يشيد الحصون بالصحراء ويصنع البارود وله عسكر وخيول مسوّمة ويبغض الفرنجة .. كل ذلك خرافات وأراجيف لا أصل لها ... ومن أجل ذلك قلنا ولازلنا نقول أن الشيخ السيد المهدي t لم يكن منطوياً على معاداة أهل الصليب ولم يفكر يوماً واحداً في إيقاظ الفتنة النائمة " .
ويبيّن كاتب المقال سبب بروز هذه التهم فيقول بعد مدح "المهدي" ،(وفي هذه المدة الأخيرة ظهر داع بنواحي بحيرة تشاد لشنّ الغارة وإثارة الفتن اسمه السنوسي وهو من أتباع "رابح" سلطان "برنو" الذي قتل في السنة الفارطه، وكانت له أخت اسمها "فاطمة"  في عاصمة "رابح" المذكور، وهذا الرجل ليس هو السنوسي المترجم له، ولا شك في أن الاشتباه على أصحاب الجرايد من أنه هو المهدي السنوسي حصل من اسمه الذي هو محمد السنوسي .. فسدّد كتبة فرنسا للتنديد بصاحب الطريقة السنوسية.. وعلى كل حال فلا لوم على من غلط من جنرالات باريس ...).





     لأن هذا الإيهام تسرّب أيضاً لبعض الصحف الإسلامية نفسها مثل مجلة المنار فقد ذكرت هذه المجلة أن السنوسي المهدي له حرب مع "الفرنساويين" وفي رأينا أن هذه  الحرب الدعائية كانت مقصودة وليست نتيجة خطأ فقط، وذلك للتمهيد لحرب عسكرية،            (( كان لا بد من إيراد مداخلة الرحالة الحشائشى التونسي، والذي اسمه وكتابه على قائمة المراجع المذكورة في هذا المقال، وذلك لإضفاء البيئة الحقيقية والمناخ الواقعي لتلك الحرب وتقاطعات المصالح وتبرير الاعتداءات والتحالفات الاستعمارية وضرب طبول الحرب الدعائية للتمهيد لنشوب الحروب العسكرية )).
    بدأت الحرب عندما تقدم الفرنسيون صوب" كانم " في حملة مزوّدة بالأسلحة والمعدات الحديثة، وتهيّأ السنوسيون لملاقاتهم فوضعوا حامية كبيرة في مكان يسّمى "بير علالي" وكان على رأسها السيد أحمد محمد الشريف حفيد الإمام وإبن عم السيد إدريس               "سليل الفاتحين" يساعده شيخ الزاوية محمد البرّاني. وحدث اشتباك بين الطرفين فأحرز السنوسيون  بعض الانتصارات وردّوا الحملة أكثر من مّرة ثم تغّلب الفرنسيون بمعّداتهم وأسلحتهم الحديثة وانهزم محمد البرّاني في معركة دامية في يناير 1902م وسقطت  "بير علالى" في أيدي الفرنسيين الذي هدموا زاويتها وبنوا مكانها قلعة حصينة .
وهكذا حدث الصدام الذي تجنبته الحركة السنوسية أكثر من نصف قرن وسيستمر هذا الصدام سنوات بين الفرنسيين والسنوسيين ثم بين السنوسيين والطليان في برقة .
   وفي أثناء الاشتباكات الأولى بين السنوسية والفرنسيين في بير علالي اشتد المرض بالسيد المهدي ثم توفاه الله يوم الأحد 24 صفر 1320 هـ الموافق 2 يونيو 1902 في زاوية "قرو" في تشاد . واقترح أحمد الريفي نقل الجثمان إلى الكفرة وتم ذلك ودفن في زاوية التاج .
   وهكذا انتقل السيد المهدي إلى رحمة الله وعمره في الستين، بعد أن عاش حياة مليئة أمضى معظمها في تسيير الحركة السنوسية، ولقد حاول بإخلاص أن يدفع بها إلى الأمام ونجح في محاولاته هذه إلى حد لا بأس به، كما حرص على أن يقتفي خطوات أبيه الإمام فتقّيد بأسلوبه وطريقته فكان عمله تتمّهً لعمل أبيه .
   ويبدو من تاريخ السيد المهدي أنه كان يتمتع بصفات كريمة ويتحلى بشيم طيبة مع عقل راجح، وتقوى فائقة .
   ولا بد لإتمام الكلام في هذا المقام، وهو ترجمة ابن الإمام، أن نسترشد بما كتبه المستر E.I. F DE CANDOL ، الذي عمل  كسفير مفوض لحكومة صاحبة الجلالة البريطانية في برقة، وكانت تلك الفترة هي التي نشأت فيها صداقته مع السيد إدريس الذي أصبح ملكاً على ليبيا فيما بعد وقد أنعمت عليه الحكومة الليبية بوسام الاستقلال في سنة 1952م. إذ يقول المستر دي كاندول : حدثت وفاة السيد المهدي على نحو مباغت قبل تعيين خليفة له في حين كان ابنه البكر محمد إدريس صغيراً لا يتعدّى الثانية عشر من عمره فاستقر رأي الإخوان على أن يتولّى ابن عمه السيد أحمد الشريف خلافة الطريقة نيابة عنه إلى أن يبلغ سن الرشد ، بينما مكث محمد إدريس في الكفرة يواصل بمدرسة زاوية التاج حيث ينكبّ على حفظ القرآن ودراسة الحديث والتفسير والشريعة  والفقه والتاريخ وعلم الحساب .
وفي تلك الأثناء ظهر من أقصى الجنوب الغربي خطر محدق يتهدد وجود الحركة السنوسية برمتها فقد بدأ الغزو الفرنسي للأراضي التشادية سنة 1900 وكانت كل من انجلترا وفرنسا قد وقعتا معاهدة سرية فيما بينهما في مارس 1899 وهي نموذج صارخ للمؤامرات والدسائس الأوروبية التي كانت تحاك آنذاك بقصد الاستيلاء على ممتلكات في القارة الإفريقية. فمقتضى تلك المعاهدة خصصت لفرنسا منطقة وسط السودان وتقع من بحيرة تشاد في الغرب إلى حدود دار فور شرقاً،مع أنها كانت في الأصل سلطنة مستقلة منذ أقدم العصور، في مقابل تعهد فرنسا باحترام المصالح البريطانية في السودان المصري. وعلى الأثر عقدت إيطاليا وفرنسا أيضاً اتفاقية سّرية في ديسمبر 1900 أطلقت يد إيطاليا في كل من طرابلس الغرب وبرقة التابعتين للإمبراطورية العثمانية آنئذٍ نظير اعتراف الحكومة الإيطالية بمصالح فرنسا في سلطنة المغرب المستقلة وقتذاك .
    وهذه الاتفاقيات الرامية إلى اقتسام أجزاء من إفريقيا بين بعض الدول الأوروبية تعتبر أمثلة حيّة على نوعية المساومات الرخيصة ونظرة الاستهتار التي كانت سائدة في تلك الفترة والتي تجاهلت تماماً حتى السكان الأفارقة وحقوقهم في تقرير مصائرهم واختيار حكامهم بأنفسهم. وفيما يتعلق بوسط السودان زعم الفرنسيون أن الحركة السنوسية هي العقبة الرئيسية في طريقهم بدعوى أنها شديدة العداء للمسيحية مع أن هذا الاعتقاد الخاطئ الذي شاع استناداً إلى روايات بعض الرحالة المبالغ فيها كان ينطوي على تجاهل كامل لتأثير السنوسية السلمي والحضاري ويعزو إليها بدلاً من ذلك وجود تنظيم عسكري ونوايا       
    لم تكن تريدها ولا تملكها في واقع الأمر. ولكي تسارع بالوصول إلى حدود منطقة النفوذ التي خصصت لها بموجب المعاهدة المبرمة مع عام 1899 بدأت جحافل القوات الفرنسية في التحرك شرقاً من قواعدها في جنوب الجزائر والنيجر وكان ذلك تقريباً في نفس فترة انتقال السيد المهدي إلى إقليم "قرو"، ثم كان الاستيلاء على "بير علالي" وهي مركز السنوسية في "كانم"، ومقتل شيخها "محمد البرّاني" سنة 1902 كما سبق وأشرنا بمثابة ضربة موجعة للحركة السنوسية، وبعدها شرع الغزاة الفرنسيون في شن حملة لا هوادة فيها بغية القضاء على الطريقة السنوسية بالكامل داخل كل الأراضي التشادية الشاسعة وخارجها. وفي خلال مدة قصيرة لم تكد تتجاوز العشر سنوات أصبحت الحركة السنوسية في تلك المنطقة في حكم المنتهية، وكان إدراك مدى خطورة التهديد الفرنسي ولا سيّما عقب احتلال طرق القوافل المؤدّية من "باقيرمى" و "النيجر" و "كانم" و "واداى" إلى ليبيا، هي السبب الذي حمل السنوسيين في آخر الأمر على دفن خلافاتهم القديمة مع الأتراك من أجل الوقوف معاً في مواجهة هذا الخطر المشترك .
ولقد تجاوزعدد الذين استشهدوا دفاعاً عن زاوية بير علالي المائة شهيد منهم ستون شهيداً من قبيلة الزويّة بينهم الشيخ بوبكر قويطين الذي قالت والدته عندما سمعت بنبأ وفاته ورفاقه من قبيلة الزوية : (إنعنهم فدا لسياد اللى في علالى رقّدوا) .
  وهذا البيت وتلك الأم العجوز يعكسان كل الحب والتضحية بالنفس والولد الغاليين في سبيل الوطن والسنوسيين ودعوتهم وعلى رأسهم في ذلك الوقت السيد محمد المهدي والد سليل الفاتحين محمد إدريس السنوسي .
  وكذلك استشهد شيخ زاوية بير علالي سيدى محمد البراني الساعدي والشيخ يونس بدر والشيخ السنوسي خير الله العبد وشقيقه عبد الله والشيخ غيث سيف النصر والشيخ مصباح الحولي، كذلك استشهد الشيخ محمد بن عقيله شيخ زاوية "قرو" الذي جاء على رأس كوكبة من الفرسان المجاهدين في محاولة لإنقاذ زاوية "بير علالي" .     
   لقد كان السنوسيون دائماً يعتزون باستقلالهم لا يفرطون فيه وظلّوا حتى ذلك الحين يرفضون مجرد استقبال ممثلي السلطات التركية في الكفرة، ولكن بعدما تأّزم الموقف جدّياً بحلول عام 1908م رحّبوا برفع العلم التركي هناك إعلاناً للسيادة العثمانية واحتماءً بها، غير أن الأتراك في نفس الوقت كانوا مشغولين بمتاعب داخلية في بلادهم ولم يعد بوسعهم توفير قوات كافية للدفاع عن مثل تلك التخوم البعيدة. ومن هنا اضطر السيد أحمد الشريف إلى البحث عن وسيلة أخرى لإنقاذ الحركة السنوسية، بينما كانت مناطق "بورنو" وتبيستي بما فيها أقاليم "قرو" و "اوجنجا" قد وقعت بأكملها في أيدي الفرنسيين، فأرسل في طلب النجدة من اللورد كيتشنر بالقاهرة – ومنذ ذلك الحين كانت العلاقة بين بريطانيا والحركة السنوسية قد نشأت وليس كما يعتقد البعض ويشيع بأنها بدأت أثناء تواجد سيدي إدريس في المهجر بمصر في الأربعينيات – ورأت الحكومة البريطانية  في حينها أن الكفرة تعد من ضمن المناطق الخاضعة لسلطان الإمبراطورية العثمانية، فتدخلت لمنع الفرنسيين في اللحظة الأخيرة إذ أن أحد الطوابير الفرنسية كان قد وصل بالفعل حتى منطقة "سارّة" التي تقع على بعد 320كم فقط جنوبي الكفرة. وفي سنة 1910م انسحبت القوات الفرنسية إلى بلدة "تكرو" التي اعتبرت من ثم نقطة الحدود الفاصلة بين أراضي ليبيا وتشاد .
وما أن نجا السنوسيون من تهديد الخطر الهائل في الجنوب حتى أحدق بهم في الشمال خطر جديد أكثر إلحاحاً من سابقه. فسعيا وراء حقها المزعوم في امتلاك منطقة نفوذ لها في ليبيا وضمان موطئ قدم على الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط – التي كان جزء كبير منها قد وقع في أيدي الإنجليز والفرنسيين فعلاً – قامت إيطاليا فجأة بإعلان الحرب على تركيا في سبتمبر 1911م ثم بادرت بإنزال قواتها في كل مدن طرابلس والخمس وبنغازي ودرنة وطبرق. وكان ذلك العمل عدواناً سافراً أثار سخط العالم الإسلامي كله، بينما لم ترتفع في أوروبا سوى القليل من أصوات الاحتجاج لأن سائر الدول الأوروبية الكبرى كانت عاكفة على القيام بأعمال عدوانية مماثلة في أجزاء أخرى من القارة الإفريقية .
    أما تركيا التي كانت حينذاك غارقة في حرب البلقان حتى أذنيها فإنها لم تكن في وضع يمكنها القيام بأي عمل دفاعي فعّال في ليبيا ( خصوصاً بعد توقيع اتفاقية أوشى لوزان مع إيطاليا في أكتوبر 1912 – إدخال من الكاتب ) .
ولذا فإن مسئولية تنظيم المقاومة الليبية وقعت على عاتق الزعماء الوطنيين وحدهم بينما كان ينقصها التنسيق وكفاءة التوجيه، وكذلك السلاح .
   وفي تلك الأثناء بعث السيد أحمد الشريف أوامره من الكفرة لحثّ السنوسيين على أن يهبّوا لمساندة الحاميات التركية في مناطق بنغازي ودرنة. وهكذا أثار رجال القبائل المحليّة حركتي مقاومة منفصلتين لا تنسيق بينهما في كل من طرابلس وبرقة، واستمرت المقاومة في السير على هذا المنوال طيلة فترة الكفاح الليبي ضد الطليان. وعلى الرغم من أن الحكومة العثمانية ظلّت عاجزة عن إرسال إمدادات عسكرية نظراً للحصار البحري الذي فرضته إيطاليا على سواحل ليبيا إلا أن كثيرين من ضباط الأتراك والمصريين استطاعوا التسّلل إلى داخل الأراضي الليبية حيث انضموا إلى القوات التركية الليبية المشتركة، وكان من ضمن هؤلاء الضباط الذين وصلوا طرابلس : فتحي بك، الملحق العسكري التركي في باريس، وحافظ عفيفي وهو طبيب صار فيما بعد سفيراً لمصر في لندن، وعبد الرحمن عزّام، أمين عام الجامعة العربية في وقت لاحق.
      وبفضل تعاون المصريين الذين بذلوا كل جهد مستطاع لمساعدة المقاومة الليبية. وصل إلى برقة أيضاً عدد من أولئك الضباط كان من بينهم أنور بك الذي تولّى فيما بعد منصب وزير الحربية التركية ومصطفى كمال ( أتاتورك رئيس تركيا في وقت لاحق) وعزيز المصري وكانوا كلهم ينتمون إلى حركة تركيا الفتاة في ذلك الوقت .
   وكان أنور بك قد نجح إلى حد كبير في كسب ثقة القبائل البرقاوية التي تمكنت بغاراتها المتتالية من تضيق الخناق على قوات الاحتلال الإيطالي وإرغامها على أن تلزم معاقلها الساحلية. وفي صيف 1912 أقنع أنور بك السيد أحمد الشريف بالقدوم إلى الجغبوب حيث زاره هناك وأبلغه بأن السلطان قرّر منح الليبيين استقلالهم، كما حثه على مواصلة الحرب وحده وعدم القبول بأية شروط للصلح طالما بقى الإيطاليون في ليبيا . أما أنور نفسه فسافر بعدئذٍ إلى تركيا وكان مصطفى كمال قد سبقه إليها . ثم لم يلبث الأتراك أن توصلوا إلى تفاهم مع الطليان أسفر عن إبرام معاهدة لوزان بين الجانبين ( كما ورد في ملاحظة الإدخال ) . وقد نصّت تلك الاتفاقية المشبوهة على أن يسحب الأتراك قواتهم من ليبيا ويمنحوا البلاد حكماً ذاتياً كاملاً، فيما سمحت للسلطان العثماني بتعيين ممثل شخصي له في البلاد مع الاحتفاظ بسلطته الدينية على الأهالي . وكان السيد أحمد الشريف هو المفوّض الذي اختاره السلطان، وتفصيل ذلك أن أنور باشا حمل إلى السيد أحمد الشريف ذلك الأمر السلطاني الذي ينص على أنه أصبح نائباً للخليفة في إفريقيا كلها ويخّوله ما للخليفة نفسه من النفوذ المطلق مدنياً وعسكرياً، كما يعطيه حق إعطاء الرتب والنياشين والعفو عن المحكومين وكذلك التولية والعزل دون الرجوع إلى دار الخلافه .
  وقد وكّل سيدي أحمد الشريف السيد إدريس السنوسي توكيلاً كاملاً في كل ذلك قبل مغادرته برقه عام 1918م. وقد حمل أنور باشا للسيد أحمد الشريف الكثير من الأوسمة والنياشين لمنحها لمن يشاء من مساعديه. وقد منح السلطان السيد أحمد رتبة الباشاوية من الدرجة الأولى وعدة أوسمة رفيعة منها الوسام العثماني الأول، كما منح السيد إدريس السنوسي نفس الوسام ونفس رتبة الباشاوية من الدرجة الأولى، ومنح رتبة الباشاوية لكل من السيد محمد عابد السنوسي والسيد رضا المهدي والسيد على الخطابي والسيد هلال والسيد صفي الدين وهم أبناء عم الملك إدريس – سليل الفاتحين – مع أوسمة رفيعة أخرى. وتولى السيد أحمد سلطته العامة باسم نائب الخليفة العثماني وقائد المجاهدين وقد وزّع الرتب والنياشين على معاونيه ونذكر منهم :
رتبة الباشاوية لكل من حسين بسيكري مع النيشان العثماني، والسيد أحمد بن إدريس والسيد أحمد العيساوي والسيد محمد على عبد المولى والسيد المرتضي فركاش والسيد محمد الدردفى، والسيد محمد بن عمور، والسيد عمران السكوري. كما منح رتباً وأوسمة أخرى لكل من محمد الأسمع والسيد عبد الله بن عامر والسيد عبد السلام بوقشاطه والسيد مصطفى امنينه والسيد وصفى الخازمى .
وقبل هذه "النيابة" عن الخليفة كان السيد أحمد الشريف يحمل رتبة "مشير" في الجيش العثماني، ويحمل الوسام المجيدى الأول والعثماني الرابع والثاني والنيشان المرصع مع الأوشحة، وفي فترة لاحقة حمل وسام ألماني من أرقى الأوسمة العسكرية الألمانية .
 وهكذا أجبرته الظروف – السيد أحمد الشريف على أن يصبح رئيس حكومة وقائداً عسكرياً في آن واحد . وعلى الرغم من تفوق القوات الإيطالية المعادية وقلّة خبرته العسكرية، فإنه تحمّل المسئوليات الجسام بكفاءة مذهلة .
  وعقب انسحاب القوات التركية من طرابلس الغرب أخذت حركة المقاومة هناك تخمد تدريجياً. أما في برقة فقد أبقى الأتراك على بعض قواتهم فلقيت مساندة كاملة من قوات البدو واستطاعت أن تلحق بالإيطاليين عدة هزائم ساحقة. وفي غضون ذلك قام السيد أحمد الشريف بتأليف حكومته الخاصة التي جعل مقرّها في الجغبوب وأصبحت كافة أوراقها الرسمية تحمل ختم "الحكومة السنوسية" وقد شدّ من أزره التأييد المعنوي الواسع النطاق الذي عمّ أرجاء العالم العربي والإسلامي إذ نشطت من كل من مصر وسوريا والحجاز لجان جمع التبرعات دعماً للجهاد الليبي، فيما كانت إمدادات المؤن والذخائر ترد عن طريق ميناء السلوم بمصر التي لم يكن بوسعها إرسال قوات من عندها نظراً لوجود السيطرة البريطانية فيها وقتذاك ( وما أشبه اليوم بالأمس إذ مضت ستة أشهر على قيام ثورة 17 فبراير ولم تعترف لا سوريا ولا مصر ولا الحجاز حتى اليوم ) فشكلت جمعية للهلال الأحمر من أجل العناية بالمرضى والجرحى بين صفوف المقاتلين الليبيين . (1912م – 2011م)، فالتاريخ يعيد نفسه.
 وفي صيف عام 1913 بدأت الأمور تسير من سّيء إلى أسوأ بالنسبة للقوات السنوسية التي تكبّدت خسائر فادحة في بعض المعارك واضطرت إلى إخلاء المواقع القريبة من بنغازي ودرنة وعدة مناطق في الجبل الأخضر. كما زاد من تدهور الموقف حدوث خلاف بين السيد أحمد الشريف ومستشاره "عزيز المصري" حول سير العمليات الحربية مما أدّى إلى انسحاب هذا الأخير عبر الحدود المصرية حاملاً معه معظم قطع المدفعية التركية المتبقيّة، فاشتكاه السيد أحمد الشريف إلى أنور بك، وحوكم المصري أمام مجلس عسكري تركي أصدر ضده حكماً بالإعدام بتهمة تسليم برقه للطليان . واعتبر البرقاويين تخلّى عزيز المصري عنهم واستيلائه على الأسلحة الثقيلة وأخذها معه إلى مصر – خيانة لا تغتفر ومهما يكن من أمر فإن الحكومة التركية لم تلبث أن أطلقت سراحه ولم تنفذ فيه حكم الإعدام بل سمحت له بالإقامة في مصر وذلك استجابة لوساطة أصدقائه الكثر من ذوي النفوذ هناك وتدخّل مراسل صحيفة "التايمز" البريطانية في إسطنبول .
  وفي وقت لاحق ساهم عزيز المصري في تفجير الثورة العربية بالحجاز، ثم اختار الجنسية المصرية وشغل في مصر عدة مناصب هامة من بينها منصب المفتش العام للجيش المصري . وكانت المقاومة المنظمة بقيادة الضباط الأتراك قد توقفت في برقه بعد رحيل عزيز المصري، غير أن القتال استمر بأسلوب حرب العصابات حيث ظل عرب برقه يضايقون الإيطاليين بشنّ هجمات متكررة على الموانئ وخطوط الإمدادات لمنعهم من بسط سيطرتهم إلى أبعد من حدود الشريط الساحلي .
  وفي طرابلس انقسم أهل البلاد إلى فريقين كان أحدهما يصرّ على مواصلة القتال والآخر ينادى بالدخول في مفاوضات مع الطليان على أساس المطالبة بالحكم الذاتي وفقاً لما نصّت عليه معاهدة "أوشى لوزان" المنعقدة في شهر أكتوبر 1912.
 وقد رجحت لبعض الوقت كّفة الرأي الداعي إلى استمرار المقاومة، وكان يتزعم هذا الرأي المجاهد سليمان الباروني ( من قادة ثوار الجبل ) غير أنه لم يفلح في توحيد الشعب خلف قيادته .
  وكان انسحاب القوات التركية في أوائل عام 1913 قد ترك أهل طرابلس الغرب وحدهم بلا قيادة وعّزلاً من السلاح، فتمكّن الطليان من احتلال معظم أجزاء البلاد دون مقاومة تذكر. ورحل الباروني إلى اسطنبول في مارس 1913 ومكث هناك إلى عام 1915 بعد أن انشغلت إيطاليا باندلاع الحرب العالمية الأولى في أوروبا، مما أتاح الفرصة لاستئناف العمليات المساندة للأتراك في طرابلس الغرب .
  ونتوقف عند هذه المرحلة على أن نعود لنروي ما حدث للسيد أحمد، وكيف أسدل الستار على حياته السياسية واضطراره للخروج إلى تركيا خلال شهر أغسطس 1918، والبقاء بها إلى أن طلب منه مصطفى كمال أتاتورك رئيس الجمهورية التركية مغادرة  البلاد حيث وافق على استضافته الملك عبد العزيز آل سعود وبقى إلى أن وافته المنيّه هناك عام 1932 .                            

         (يتبع في الحلقة القادمة )Ü .....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق