الأربعاء، 29 أغسطس 2012

الطموحات التوسعية القاتلة للقذافي


الطموحات التوسعية القاتلة للقذافي
29-8-2012                                         بقلم : إبراهيم السنوسي أمنينه                                                                                                                               

مقالة : (1)
ما كادت الحقبة السبعينية من القرن الفائت تبدأ حتى أسفر القذافي عن رغبته في التوسع والتمدّد في إتجاه الشرق أولاً (مصر) ثم الغرب ثانياً (تونس) ، وذلك باسم الوحده شعاراً ظاهرياً لكن الجميع أدرك أن ذلك الشعار كان يبطن رغبة جامحة قاتلة وغادره بمرور الزمن .
فمبادرته الوحدوية مع مصر انتهت بحرب سافرة بين البلدين في العام 1977م كادت تجذب أطرافاً إضافية إلى ذلك النزاع ، كذلك فإن مبادرته الوحدوية الثلاثية الفاشلة مع السودان ومصر أيام نميري أوصلت البلدين إلى حصول التوتر بين الجانبين واستقطاب المحاور بخلق حالة من عدم الاستقرار في البلدين ، فأخذ القذافي في مناصرة جيش المعارضة في جنوب السودان المتمثل في جون غارانغ ، وبدوره أخذ نميري في مناصرة الجبهة الوطنية لتحرير ليبيا المتمثلة في الدكتور محمد يوسف المقريف إلى أن انقلبت الولاءات والمناصرات إلى عداوات ومشاحنات ومؤامرات ودسائس من كلا الجانبين ضد بعضهما البعض إذ قتل غارانج في حادث طياره غامض وأضطرت الجبهة الوطنية لتحرير ليبيا أن تغادر الأراضي السودانية بعد أن استشعرت الخطر الداهم القادم من المضيف نميري نفسه نظراً لتدهور العلاقة بينه وبين الجبهة الوطنية ذلك لأسباب استراتيجية ومزاجيه  من جانبه .
بعد فشله في استقطاب الشرق والجنوب أي مصر والسودان ، فإنه اتجه إلى الغرب فهناك توجد تونس وهي البلد الصغير الفقير لكنه صاحب تاريخ وحضارة وثقافة تشترك مع ليبيا في وجوه عديده سواء كانت حروب كسيلة والكاهنة مع زهير وعقبة وحسّان أم تاريخ قرطاجه وقورينا ونزاعاتها التي أفرخت لنا رياضة الماراثون بأسطورة الإخوين فيلـّليني وقوسهما الذي شيده الطليان بالقرب من ميناء السدره ودشّنه موسوليني في العام 1936م وقوّضه المقبور المسمى بالقذافي بعد ذلك بنحو 34 عاماً .
هذا التاريخ الذي تشترك فيه ليبيا وتونس ، أو قورينه وقرطاجنه أراد المقبور أن يبتلعه ويدنسه ، فأبى التاريخ ذلك ، فرغم المال الذي عرضه على الحبيب بورقيبه ، ورغم تهديده بضم تونس إليه بقوة السلاح ومحاولته ذلك بالفعل عندما هجم على مدينة قفصه ، والتي كان اسمها (جوستينيانا) في العهد البيزنطي والتي هزم على أرضها القائد الروماني (ماريوس) (بوغورتا) نحو القرن المائه قبل الميلاد وهو ملك (نوميديا) قاتل الرومان فترة من الزمن ثم غلبه ماريوس ومات سجيناً في روما- وتقع قفصه هذه في منتصف تونس من الجنوب الغربي ولا تطل على البحر- غزاها القذافي بحفنة من العسكر وانسحب منها وكأنه يهدد بإحتلال تونس بتلك الغزوة ، التي لا مبرر لها ويقول فيها أحد الشعراء الليبيين الزجالين :   
مـّلا رفسه .. رفسة قايدنا في قفصه ..
يعني قوله : إنها لكارثه قام بها (قائدنا معمر) في قفصه يعني أن الموضوع لا يستحق ذلك وليس له مبرر ، (كلمة رفسه في الدارج الليبي معناها : أداء فاشل لا ينطوي على عقل سليم) .
وبعد أن فشلت عملية قفصه هذه ، وربما قبلها ، ولست أذكر ، قام عملاء استخبارات القذافي بمحاولة لإغتيال رئيس الوزراء التونسي الهادي نويره وفشلوا في ذلك .
إذاً فلم يبقى له من الدول المحيطة به ليجرب معها (الاحتلال) وليس الوحده ، إلا تشاد لأنه كان دائماً يقول : في ليبيا يوجد زعيم بلا شعب ، أما مصر وتونس فيوجد بها شعب بلا زعيم ، ولذلك كان دائماً يقترح الوحده ة ويسمي نفسه قائداً للجيش في الدولة الوليده ، لكي يتمكن من الانقلاب على رئيس هذه الدولة عندما يحين الوقت .
          ؛؛؛؛ بقية المقال في الحلقة القادمة بعنوان :
( الخلفيه التاريخية لمحاولته احتلال الجاره تشاد )

الأحد، 26 أغسطس 2012

تاريخ الإسلام في ليبيا قديماً وحديثاً


تاريخ الإسلام في ليبيا
قديماً وحديثاً
23-8-2012                                        بقلم : إبراهيم السنوسي أمنينه                                                                                                                               

إذا أردنا الحديث أو الكتابة عن الإسلام في أي قطر من الأقطار فإنه لامندوحه من التطرف إلى تاريخ ذلك القطر والأحوال التي مرّ بها من احتلال أو استعمار، أو حروب خاضها ضد غزاة من ملّته أو من غيرها أو عرقه نتج عنها تغيرات جغرافية أو ديمغرافية ... الخ .
وإذا كان هذا القطر هو ليبيا بالتحديد، فإنه لا مندوحة أيضاً من التطرق إلى الحركة السنوسية في ليبيا وإمامها الشيخ محمد بن علي السنوسي رحمه الله، وعلى غزوة بني سليم وهلال حوالي منتصف القرن الحادي عشر واستيطان الفينيقيين فيها منذ نهاية القرن السابع قبل الميلاد ... ومن قبلهم كانت أمّة البربر، التي أجليت من أرض فلسطين بعد أن قتل داود جالوت حالة كونهم من قومه وذلك حسب ما قال به بعض المؤرخين وشكك فيه بعضهم الآخر غير أن الثابت هو أن البربر هم أقدم الأمم التي استوطنت شمال أفريقيا التي من ضمنها (ليبيا)، وطبقاً لما قاله ابن خلدون إنهم من ولد كنعان بن حام بن نوج، وأن اسم أبيهم مازيغ، وبالطبع لسنا في حاجة لتأكيد ما يقوله أبن خلدون، ذلك لأن ما يقوله ابن خلدون من البديهي هو التاريخ بعينه . والآن بعد أن عرفنا أن البربر من أقدم سكان شمال أفريقيا بما فيهم ليبيا، يجب ألا يساورنا شك في ديانتهم قبل ظهور الأديان، فهي كانت طبقاً لما يقوله البكري في كتابه المسالك والممالك أن قبيلة بربرية في جنوب الغرب الليبي كانوا يعبدون ثوراً، وكان للحضارة الفرعونية تأثير عظيم في العادات والمعتقدات البربرية، وذكر العلامة ابن خلدون أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر، ويقول شيخ التاريخ هيرودوت : أنهم لا يعبدون سواهما، غير أنهم في بعض الأحيان كانوا يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم العظيمة مثل قبيلة حِمْير، والتبابعة، والفينيقيين، وربما غيرهم، وبعد ظهور المسيحية في سنة 576م نجح البيزنطيون في قلب عقيدة الكثير منهم وأضحوا في عداد المسيحيين . وقد أخذ البربر دين المسيحية قبل الإسلام عن الروم لأنهم كانوا مغلوبين لهم .
وكان البربر قبل الإسلام أهل قوة وكثرة في أفريقيا (تونس) والمغرب وكانوا يعطون الطاعة للفرنجة الذين كانوا يملكون الضواحي كلها وعلى البربر مناصرتهم كلما احتاجوا إليهم .
ولما دخل المسلمون كجيش فاتح أفريقيا ناصر البربر (جرجيراً) عليهم، ولما قتله المسلمون، تشتتّت شملهم وتعددّت رياستهم .. وكان (كُسيْله) من أقوى رجالاتهم – أي البربر – وأشدّهم فالتفّوا حوله . وينقل ابن خلدون عن المؤرخ ابن أبي زيد أن البربر كانوا قد ارتدّوا بأفريقيا اثنتي عشر مرة من طرابلس إلى طنجة، وزحفوا في كل هذه المرات على المسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير، ولما جاز إلى الأندلس أخذ معه بعضاً من رجالاتهم معه ثقةً منه فيهم فاستقروا، فاستقر الإسلام في المغرب، وأذعن البربر لحكمه، ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردّة . ثم بعد ذلك سَرَت فيهم – أي البربر – دعوة (الخارجية) ممن قدموا من العراق، ووجدت من عامتهم (صفاءً) فاعتنقوها فتعددت طوائفهم فيها وتشعّبت طرقها إلى أن رسخت فيهم، وتطاولت نفوسهم إلى الفتك بالعرب فقتلوا يزيد بن مسلم سنة 102ﻫ .
ومن طول الزمن وتعاقب السنين اندمج بربر السواحل في الروم بسنّة تقليد الضعيف للقوي، واستحسان المغلوب ما عليه الغالب من عادات وتقاليد، ونسي بعضهم قوميتهم وعاداتهم وانصهروا وأصبحوا روماً في كل مقومات الحياة حتى زالت الفوارق بينهم وبين الروم . وبهذا الاندماج أمكنهم أن يتولّوا أكبر المناصب في الدولة الرومية، لذلك فأنك ترى أن سبتيموس سيفاروس– وهو بربري الأصل – انتخبه جنود الإمبراطورية الرومانية لعرشهم سنة 193م ومات محارباً بانجلترا سنة 211م، وخلفه ابنه . وكان هذا الاندماج في بربر السواحل وما قاربها، أما البربر الذين يسكنون الجبال وما وراءها فقد احتفظوا بقوميتهم وعاداتهم، ولم يتأثروا بعادات الروم، ولذلك نراهم كثيراً ما قاوموا الروم وحاولوا إجلاءهم عن وطنهم، ولم يتركوا فرصة للانتفاض والثورة إلا ثاروا عليهم للتخلص من حكمهم، أي أن سكان السواحل غير مناوئين بل ممالئين للغالبين المحتلين قابلين للانصهار في بوتقة المحتل والتشكل بصفاته وعاداته بل ودينه أيضاً – ذلك على نقيض سكان الدواخل والجبال .
وفي القرن السابع الميلادي تقلّص نفوذ الروم في دواخل ليبيا وانحصر في السواحل . وبقيت ليبيا ضمن أفريقيا، تحت حكم ملوك الروم بقسطنطينية (أي بيزنطة في الشرق) إلى أن فتحها العرب فأجلوهم عنها، لذلك نرى الطليان يقولون أن طرابلس بلادنا، ولذلك يوم احتلت القوات الغازية ليبيا عام 1911، وقف أحد قادة الجيش المحتل (وقد أخذته العزة) بالغزو الظالم، فنفش ريشه كما الطاووس (وأظنه كان غراتسياني) قائلاً : ها قد عدنا يا روما، وهو يقصد طرابلس . ولقد كذب هذا القائد ومن لقّنه بهذه الفرية التي تخالف الحقيقة، فإن بلادهم الأصلية هي روما وما حولها من بلاد شمال البحر الأبيض المتوسط، وإنما جاءوا عادين غازين وأخذوها عنوة من الفينيقيين والوندال كما أخذها منهم العرب في الفتح الإسلامي بالقوة .
وحوالي العام 642 ميلادي الذي صادف 22 للهجرة سار عمرو بن العاص بجيشه بعد أن تم له فتح الإسكندرية – سار إلى برقه لفتحها وبالفعل تم له ذلك ودخلها صلحاً وبشرط الجزية وكانت تقطنها قبائل من البربر الخاضعة إسمياً لبيزنطة وكانت المقاومة التي لقيها عمرو ضئيلة للغاية، ولم تنقضي سبعون سنة حتى غدا جميع شمال أفريقيا من سيناء إلى المحيط الأطلسي – في يد المسلمين، ويبدو أن المستعمر أو الفاتح الأصلي قد استقر في المدن الساحلية كحاميات ولا سيطرة لهم على الأجزاء الداخلية من البلاد . كما أنهم لم يتركوا أثراً عرقياً معتبراً في أهاليها . أما استقرار البدو العرب على نطاق واسع فيها ثم التعريب الكامل لأهلها البربر الفطريين فقد حدث بعد ذلك بنحو أربعمائة عام أو يزيد قليلاً – من جراء هجرة بني هلال الشهيرة – أي في العام 1051م ونعود إلى فتح برقة فإن عمرو بن العاص بعد أن صالح أهلها على الجزية، مضى بعدها إلى زويلة وسرت ولبدة وطرابلس ثم صبراته ثم جبل نفوسه الذي كان ولا يزال هو موطن البربر ومحل إقامتهم الدائمة وممتلكاتهم الخاصة . وبعد أن استقر العرب في أفريقيا بفعل الفتح فإنهم شاركوا البربر في سكناهم وأنشئوا كثيراً من القرى الخاصة بهم، وأوجدوا في السفوح الشمالية والجنوبية الغربية (أي جبل نفوسه) كثيراً من الأراضي الخصبة والمراعي الفسيحة .
ثم بعد أن انتهى العرب من فتح صبراته فإنهم ساروا إلى بلدة تسمى (شروس) وهي من أكبر عواصم البربر القديمة في جبل نفوسه التي كانت موجودة زمن الفتح ولازالت خرائبها موجودة حتى اليوم، وكانت إحدى عاصمتي الجبل، وكانت تحتوي على 300 قرية، والعاصمة الأخرى هي جادو – وبعد أن فتح العرب مدينة (شروس) لم يشأ عمرو أن يتقدم إلى الغرب لقلة القوة التي معه، ولأنه يعلم أن مدناً كثيرة للروم والبربر مازالت أمامه، وأيضاً فإن عيونه أخبرته بكثرة تجمعات الروم  والبربر في تلك المدن التي أمامه .
وهناك مدينة قديمة أخرى من مدن البربر الجنوبية هي ودّان بالإضافة إلى توابعها زلة – وهون– وسوكنه، جرى فتحها على يد القائد بُسْر بن أبي أرطأه، لعنه الله، وهو الذي اشتهر بأنه أوقع الكثير من القتل والتشريد بآل بيت النبوة أثناء حملة مناصرة معاوية بن أبي سفيان (لعنه الله أيضاً هو وإبنه يزيد وصنيعتهما الحجاج بن يوسف الثقفي إلى يوم الدين) بتكليف من عمرو بن العاص أثناء حصاره لمدينة طرابلس، وفتحها سنة 23ﻫ الموافق 643 ميلادي وفرض على أهلها غرامة قدرها 360 رأس من الرقيق، وبعد أن غادرهم بُسْر ارتدّوا وبقوا على ردتهم إلى أن فتحهم عقبة بن نافع في العام 49 للهجرة الموافق 650 ميلادي تقريباً  .
يؤخذ مما تقدم أن البلاد الطرابلسية التي تم فتحها بقيادة عمرو بن العاص هي بلاد الساحل من برقة إلى صبراته ومن بلاد الجنوب شروس وزويلة وودان وهون وسوكنه فضلاً عن جبل نفوسه.


ويروي لنا التاريخ ما يلي :
كان أكثر سكان برقة عند غزوها من بربر (لواته) وسكان أهل طرابلس وصبراته من نفوسه وكلتا القبيلتان من البربر (البتر) ولم يحصل منهما في ذلك الفتح إسلام .
ثم جاءت خلافة عثمان بن عفان، وغزا عقبة بن نافع أفريقيا (تونس) وما جاورها وصالح أهلها ولم يستطع التوغل في المغرب لما بلغه من كثرة أهله وشدّة بأسهم وعدم وجود الجيش الكافي معه فعاد نحو المشرق في انتظار المدد من عاصمة الخلافة . وكان عبد الله بن أبي السرح قد استأذن الخليفة عثمان في الخروج إلى (تونس)، وجهز جيشاً من العسكر من المدينة المنورة كان من بينهم الحسن والحسين وجماعة من الصحابة وقد أطلق على هذا الجيش اسم جيش العبادلة وكذلك نفس الاسم أطلق على هذه الغزوة : غزوة العبادلة ذلك لأنه اجتمع فيها سبعة من كبار الصحابة كل منهم اسمه عبد الله . التقى هذا الجيش بعقبة بن نافع ومن معه من المسلمين في برقة وساروا معه إلى تونس واحتلوها وبنى فيها عقبة مسجد القيروان، وعاد عقبة إلى الشرق .
وفي وقت لاحق رجع عقبة إلى القيروان إذ كان البربر قد نكثوا العهد في مدته الأخيرة فغزاها بعد رجوعهم عن الإسلام، فخضع له جماعة البربر ولم يزل كذلك حتى وصل إلى المحيط الأطلسي ودخل فيه بفرسه ودعاؤه آنذاك مشهور، ثم كرّ راجعاً وأرسل جيشه أمامه ولم يبق معه سوى ثلاثمائة فارس من الصحابة، وكان يظن بعد فتوحاته أن البلاد استكانت . لما رأى (كُسيْله) عظيم البربر ووصله من أنباء عن قلة الجيش الذي مع عقبة فإنه جمع البربر وربط الطريق لعقبة وكان ذلك في العام 62 للهجرة – 679 ميلادي، فثبت المسلمون وقاتلوا مثل الأبطال ولم يتزعزعوا حتى استشهد أكثرهم واُخذ بعضهم أسرى، ومدافن أولئك الشهداء في أرض (الزاب) معروفة لهذا اليوم، إذ هي مطلّية بالكلس أي الجير الأبيض لتمييزها واتخذ المكان الذي دفن فيه عقبة بن نافع ومن معه مسجداً عرف باسم مسجد عقبة .
سار من تبقى من كتائب وفلول جيش المسلمين إلى برقة واستقروا هناك في انتظار المدد من دار الخلافة، إذ كانت الخلافة أيامها في اضطراب فيما بين بني أميّة، فانتظر قائد ما تبقى من جيش المسلمين وهو الصحابي زهير البلوي مدة سبع سنين حتى تم الأمر لعبد الملك بن مروان فبعث بالمدد والجيش إلى القائد زهير بن قيس البلوي بمكانه في درنه وفوّض إليه ولاية أفريقيا (تونس وما جاورها) وفور وصول المدد من العسكر والعتاد سار به القائد زهير إلى القيروان، وكان ذلك في العام 69 للهجرة . والتقى الجمعان في القيروان جيوش (كُسيْله) المرتد من البربر وجيوش المسلمين، واشتد القتال معظم ساعات النهار وجاء نصر الله وقُتل (كُسيْله) مع جماعة من قادته وتفرقت جموعه، وعاد زهير وترك بالقيروان عسكراً قليلاً من المسلمين وهم آمنون وتوجّه إلى الشرق قاصداً مكان الخلافة – عندما بدا له أن الوضع بأفريقيا قد استقر وأصبح آمناً ومنيعاً .
واغتنم الروم ذهاب زهير بن قيس إلى تونس وخرجوا في مراكب مثيرة وقوة كبيرة من جزيرة صقلية وأغاروا على برقة وبالتحديد (درنة) فأصابوا منها سبياً كثيراً وقتلوا ونهبوا ووافق ذلك قدوم زهير من تونس، فتقدم زهير وباشر القتال بنفسه مع جنده القليل فتكاثر الروم على المسلمين فقُتل زهير وأصحابه ولم ينج منهم أحد وعاد الروم بما غنموا إلى القسطنطينية (تركيا)، وكان استشهاد زهير في العام 76 للهجرة وبعد هذا التاريخ بنحو ثلاثمائة وسبع وخمسين وألف عام هجري قام زنادقة المستشار مصطفى عبد الجليل في ليبيا في العام 1433ﻫ الموافق 2012م بنبش قبر هذا الصحابي زهير بن قيس البلوي ورفاقه في مقبرة الصحابة بسيدي منصور في (درنة) ببرقة - ألا ساء ما يحكمون !
حزن الخليفة عبد الملك بن مروان على موت زهير حزناً عظيماً، وأما البرابرة الذين تركهم زهير وهم خاضعين فقد ارتدوا ونكثوا العهد وقادتهم امرأة تدعى داهية الكاهنة . ويُروى أنه لما قُتل (كُسيْله) بسيف زهير وجيشه غضبت هذه الكاهنة غضباً شديداً لموت (كُسيْله) وهجمت بجيش جرار من البربر على (تونس) وفعلت بأهلها أقبح الأفاعيل – أفعال الكفار بالمؤمنين – وظلمتهم الظلم الشديد، ونال من بالقيروان من المسلمين أذىً فوق التصور، وبلغ ذلك الخليفة عبد الملك بن مروان، فأرسل إلى تونس حسّان بن النعمان سليل ملوك الغساسنة ، ومعه جيش كثيف سار قاصداً الكاهنة، والتقى الجيشان واقتتلا قتالاً شديداً ومريراً انهزم فيه المسلمون، وعاد حسان منهزماً منكسراً ببعض الذين نجوا من جيشه من تلك المعركة واستقر بنواحي برقة وابتنى قصوراً غربي خليج سرت لا تزال للآن تدعى قصور حسان . ولما وصل خبر انهزام جيش المسلمين أمام جيش الكاهنة إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، أعدّ جيشاً كثيفاً وأرسله إلى حسان بن النعمان ببرقة حوالي سنة 77 للهجرة وعندما توجه حسان بهذا الجيش من برقة صوب المغرب أخذت الكاهنة في حشد الجنود وتهيأت للقتال، وكان أول عمل شرعت فيه هو تخريب المدن والقرى وهدمها وقالت : إن العرب لا يرغبون إلا في الغنائم فإذا لم يجدوا مدناً يأوون إليها رجعوا عنها ومما قيل إنها هدمت في ذلك العمل مائة ألف مدينة وقرية . وكان المغرب قبل ذلك متصّلاً كله بالمدن والزراعة فخرّبته جميعاً قبل وصول جيش المسلمين (تماماً كما بث المقبور في ليبيا، في مناطق البريقة تحديداً وما جاورها وكذلك في الجبل الغربي عشرات الألوف من الألغام المضادة للأفراد المصنّعة من البلاستيك ومن إنتاج الملاحدة الروس) ذلك قبل وصول المشاة من جيش التحرير البطل وكان ضحاياه من (الجرحى ومبتوري الأوصال والمشوهين بالآلاف) .
فتقدم حسّان بجيشه وتقاتل مع جيوش الكاهنة وبعد قتال مرير انهزم جيش الكاهنة وقُتلت في المعركة . ولما انتهى حسّان من القضاء على جيش الكاهنة رجع إلى القيروان، وقيل أنه لما انتصر عاد من فوره إلى دار الخلافة بعد أن استخلف على تونس رجلاً من قفصه اسمه (أبو صالح) .
بعد ذلك بما يقرب من مائتين وسبعون عاماً، أقام المعز لدين الله الدولة الفاطمية في مدينة (المهدية) بتونس وبعد ذلك بحوالي ثمانين عاماً إمتد حكمه إلى مصر، وبعد ما يقرب من قرن من الزمان، خرج المعز بن باديس البربري والي الفاطميين على أفريقيا منذ عام 406ﻫ خرج على الدولة الفاطمية وأعلن عصيانه وولاءه للخلافة العباسية، وقطع الخطبة باسم المستنصر بالله الفاطمي وأحرق أعلامه ومحا اسمه من العملة و(الطرز) ودعا باسم الخليفة العباسي حينئذ  وهو القائم بأمر الله ونشر الرايات السود (أي العباسية) في تونس، فجيّش المستنصر بالله الجيوش واستمال قلوب العرب المتواجدين على ضفة النيل الشرقية من بني سليم وهلال وزودهم بالميرة والسلاح والجمال والمال وقال لهم قولته الشهيرة أعطيناكم الغرب ومعه ملك إبن باديس العبد الآبق فلا تفتقرون بعد ذلك أبداً .
وبعث إلى ابن باديس متوعداً قائلاً : أما بعد ، فقد أنفذنا إليكم خيولاً فحولاً وأرسلنا عليها رجالاً كهولاً ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ولما بلغ الأمر المعز بن باديس اشترى العبيد والبربر حتى بلغ العدد من الجيش ثلاثين ألفاً وسار العرب نحو ابن باديس تحت لواء قائدهم مؤنس بن يحيى من قبيلة بني مرداس، ولما لم يفلح بن باديس في إقناع وإغراء الجيوش القادمة والاحتفاء بهم، فإنه جيّش هو الآخر ما يقرب من ثلاثين ألفاً من الجنود ومثلها من الفرسان وسار من (دار الحكمة وهي صبراته) وخرج قاصداً القيروان وكان العرب يعدون ثلاثة آلاف فارس فقط فلما رأوا كثرة عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك وعظُم عليهم فقال لهم رئيسهم ابن مرداس المذكور : (ما هذا اليوم يوم فرار، اليوم يوم العينين ..) والتحم الجيشان .. واشتد القتال، وكان ذلك عام 446ﻫ الموافق 1051 للميلاد وصل المعز بن باديس القيروان مهزوماً متقهقراً يوم عيد الأضحى وجمع معه حوالي سبعة وعشرين ألف فارس وهجم على العرب وهم في صلاة العيد فركب العرب خيولهم وهجموا على جيش ابن باديس فانهزمت جموعهم وقتل منهم خلق كثير، ثم كرّر المعز مرة أخرى جمعه وهجومه وخرج بنفسه في قبائل صنهاجة وزناته وانهزم في هذه المعركة أيضاً . وعلى إثر هذه المعركة استولى العرب على القيروان وضواحيها بعد مرور ثلاث سنوات على نشوب الحرب، ولم يكن أمامهم مانع في اجتياح بقية البلاد، ولم يكن يقف أمامهم ما يستحق الذكر. وهكذا صاروا يفتحون البلد تلو الأخرى حتى وصلوا إلى مراكش، قال علي بن رزق الرياحي (الشاعر التونسي) :
          وإن ابن باديس لا حزم مالك      ولكن لعمري ما لديه رجال
          ثــلاثــة آلاف لنـا هزمت لـه       ثـلاثيــن ألفــاً إن ذا لنكــال
ولقد تحضّر نسل هؤلاء الغزاة إذ كانوا أقرب إلى الهمج، فصار لهم فضل ومزيّة في الحضارة المغربية . وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم يا إخواننا الأمازيغ البربر، حيث امتزج العرب بكم فعرّبوا لسانكم وسهّلوا امتزاج الأمتين في بعضهما وكملت بهم الوحدة الأفريقية ونشروا الأدب العربي، وكان لقدومهم أثراً اجتماعياً عظيماً صبغ البلاد صبغة عربية بعد أن كانت أعجمية، وانتهى بذلك تاريخ أمازيغ البربر وثقافته واندثر باندماجه وأنصاره في العرب ديناً وثقافة ولساناً منذ القرن الحادي عشر الميلادي . ولو أن لسانهم ما زال يرطن بلهجة (كُسيْله) ويتطلعون إلى دولة مستقلة ومدارس وجامعات ترسخ وتحيي ثقافتهم ورطانتهم الممحّوة .
إلا أن النتيجة الإيجابية لكل تلك الحروب والهزائم وتخريب المدن والقرى من قبل الكاهنة وحتى من قبل جموع جيوش بني هلال وسليم، كانت النتيجة الإيجابية والمحصلة النهائية أن يمتنع إخواننا البربر عن الارتداد عن الدين بل الانضواء تحت ألوية الغالبين كما كان دأبهم منذ السنين الغابرة والإمبراطوريات البائدة، وممالئة الغزاة من الوندال وفرسان القديس يوحنا في مالطا ومن قبلهم الرومان والبيزنطيين، والتطبع بطبائعهم والانصهار في بوتقتهم – وخذ مثلاً البربري الأمازيغي الأصل المسمى سبتيموس سيفيروس القائد الذي انتخبه جنود الإمبراطورية الرومانية عام 193 ميلادي لعرشهم والذي هو من بربر لبدة الليبيين والذي قُتل في إنجلترا وهو يقاتل مع الرومان في العام 211م ، وهذه هي نتيجة إندماج بربر السواحل في الرومان.
كان لابد من هذه المقدمة المطوّلة ولا مناص منها للتعرف على مناخ ليبيا السياسي ووضع الإسلام فيه، وما هية الظروف والأحوال التي مرّ بها الأهلون من غزوات وحروب وفترات احتلال وردّة وأي مذهب اختارت شعوبها وعلى أي مذهب استقرت وبأي فعل أتى إليها ذلك، أو تلك المذاهب ورأينا كيف استقر الإسلام في المغرب وأذعن البربر لحكمه، ورسخت فيهم كلمة الإسلام، وتناسوا الردّة، ثم بعد ذلك سَرَت فيهم – أي البربر – دعوة الخوارج – ممن قدموا من العراق، ووجدت من عامتهم صفاءً فاعتنقوها فتعددّت طوائفهم فيها وتشعبت طرقها إلى أن رسخت فيهم، وتطاولت نفوسهم إلى الفتك بالعرب . فقتلوا يزيداً بن سليم سنة 102ﻫ .
ومؤسس مذهب الأباضية الذي استقر عليه البربر في النصف الأول من القرن الهجري، هو عبد الله بن أباض التميمي، من بني مرّة وهو رأس الفرقة الأباضية وإليه نسبتهم . وكان معاصراً لمعاوية بن أبي سفيان وعاش إلى أواخر أيام عبد الملك بن مروان . كان مع نافع بن الأزرق ثم انفصل عنه وأسس مذهباً جديداً للخوارج، وهو أقرب مذاهبهم إلى مذهب أهل السنة، فهم يرون أن القدوة الحسنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هما أبو بكر وعمر بن الخطاب، وعندهم أن الإمام لا يشترط فيه أن يكون قرشياً بل يكفي أن يكون ورعاً وأن يحكم طبقاً لأحكام القرآن الكريم، فإذا خالف أوامره وأحكامه وجب خلعه، ويدعون مخالفيهم كفار نعمة لا كفار اعتقاد . ودخل مذهبهم المغرب في النصف الأول من القرن الهجري كما أسلفنا، وانتشر بين البربر فأصبح المذهب القومي عندهم، ولا يزال بقية منهم في بلاد الجزائر وصحراء تونس وفي (جربه) وقد انتشرت الأباضية في عُمان ثم انتقلت إلى (زنجبار)، وهو المذهب الذي بقي عليه بربر ليبيا منذ منتصف القرن الهجري إلى يومنا هذا .
وننتقل الآن إلى مرحلة مفصلية في تاريخ ليبيا، إذ غادرنا المرحلة الأولى عندما تأسس مذهب (الأباضية) لدى سكان ليبيا في غرب برقة وجنوبها الغربي من البربر واعتنقوا هذا المذهب في حوالي منتصف القرن الهجري الأول، أمّا البقية من السكان فكانوا على المذهب المالكي إلى يومنا هذا، ومنذ أن حّل بليبيا إمام صالح من الجزائر وكأنما أرسله الله ليصلح من شأن هذه الأمّة، وقد شكل حركة دينية وفكرية وثقافية ودعوية إصلاحية وسلفية أفرزتها جملة من العوامل الداخلية والخارجية التي ألمّت بالمنطقة الشمال أفريقية المغاربية غداة القرن 13 الهجري وتحديداً في العام 1824م ولقد نشأت وتشكلت هذه الجمعية الدينية على الصعيد الداخلي بتأثير العوامل التالية :
1- الضعف والانهزام السياسي والعسكري التي آلت إليه الكيانات الحاكمة في المنطقة المغاربية بدأ من سقوط إيالة الجزائر العثمانية فريسة في يد الاستكبار الفرنسي عام 1830 .
2- انتشار الخرافة وسيطرة الوهم وتسلّط عقيدة الجبر الفاسدة، وشيوع المفاهيم الخاطئة لتعاليم الدين الإسلامي .
3- التراجع والأفول الحضاري العربي الإسلامي، أمام الهيمنة الاستكبارية الصليبية الغربية .
4- الفساد الاجتماعي والأخلاقي مع التراجع الاقتصادي والتجاري والصناعي والزراعي المزري الذي ألمّ بشعوب المنطقة .
وقد سعت هذه الحركة السلفية الإصلاحية التي أسسها وقادها الإمام الشيخ المصلح محمد بن علي السنوسي المستاغانمي الذي ينتهي نسبه إلى ابنة سيد الأنبياء محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، هذه الحركة التي تتشابه مع الحركة الوهابية في الجزيرة العربية من حيث المؤثرات الخارجية والداخلية المحيطة بها وذلك من أجل العودة بالإسلام والمسلمين إلى أصوله السلفية الأولى وفق تصور عملي ونظري بسيطين ومتواضع ومتكامل قوامه، للأركان التالية :
1- تطهير العقيدة الإسلامية مما علق بها من الأوهام والخرافات والبدع (العامل الثاني من العوامل الأربعة المنصوص عليها فيما تقدم والتي كان لها كل التأثير والتحفيز على نشوء الحركة المباركة) .
2- توحيد العالم الإسلامي على الصعيدين المعتقدي والمذهبي ونبذ التعصب الأصولي والفرعي، كما هو حاصل الآن في المشرق العربي (العراق – سوريا – لبنان وأقطار أخرى عربية وإسلامية) .
3- نبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد على سائر المذاهب وعدم التمسك بمذهب فقهي واحد .
4- نشر الإسلام في صحراء أفريقيا (وهذا ما فعل الإمام المصلح) .
5- الوقوف في وجه التغلغل والنفوذ الاستكباري (الفرنسي الانجليزي) ANGLO-FRANCO في أفريقيا .
كان هذا ملخصاً لحركته الدعوية الدينية الإصلاحية، وتبرز هنا عالمية هذه الدعوة عند الإمام من الحرص على إنشاء (زواياه) أي مدارسه ومعاهده وأركان دعوته في كل مكان استطاع الوصول إليه، فأول زاوية أنشأها كانت في الحجاز وأسمها (أبو قبيس)، ثم في مصر ثم في ليبيا ثم في تشاد ومالي، ذلك أن الإمام كان قد تنبّه إلى جهلهم بالقرآن وبأحكام الشرع وقلّة الالتزام بأركان وقواعد الإسلام، (وأن هذه الطريقة التي تسمى بالسنوسية هي عبارة عن جمعية مذهبية وطريقة صوفية وسياسية واجتماعية، ولو أنها من الناحية السياسية ليس لها أهداف تمردية، انقلابية على الدولة) . أي أنها لا تحارب الدولة بل ترفدها وتسندها وقد نشأت في ظلّها، (دولة الخلافة) .
ويمكن إجمال هذه الأسس الفكرية والتصورات التي تبنتها الدعوة السنوسية فيما يلي :-
أولاً : دعوة الناس كافة إلى الالتزام بأحكام الإسلام الظاهرة والباطنية، ذلك أن المسلمين في تلك الحقبة (القرن 19) كان قد انتشر بينهم الجهل والتهاون، فكان تعليم الناس أحكام الشريعة هدفاً أساسياً وأولياً لتحقيق معنى الإسلام .
ثانياً : ومن خصائص وأسس هذه الدعوة ما يمكن تسميته (سياسية عدم المواجهة مع مختلف الاتجاهات والتيارات الإسلامية) وانظر كيف واجه طاغيتنا المقبور، الذي بلينا به، التوجهات الإسلامية المعارضة في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكيف قصفهم بالقنابل الحارقة والغازات السامة في الجبل الأخضر وعلى تخوم مدينة (درنه) . ولو أنه اتبع سبيل هذا الإمام المصلح الصالح وهو حظر المواجهة واستبدالها بالمناظرة والحوار لما تطور الأمر إلى أسوأ الأحوال، وهو ما حدث من تقتيل بالجملة في سجن يو سليم خلال شهر يونيو 1996 . وهذا ما يتضح جلياً من خلال عدة مواقف للإمام، مثل موقفه من الحركة المهدية في السودان ودعوتها، حيث بعث إليه محمد أحمد المهدي، صاحب الدعوة المهدية في السودان كتاباً فلم يرد عليه بنفي ولا إثبات – حيث ادّعى المهدي أنه هو المهدي المنتظر، فلم يواجهه مع رفضه لفكره، وأيضاً عدم مواجهته الدعوة الوهابية في الجزيرة، مع أنها كانت ترى بطلان مبادئ هذا الأمام السنوسي المتمثلة في التصوف والمعتقد السنّي في الأشعري . وذلك رغم أن حركة الوهابية هذه بحاجة ماسّة إلى دراسة وتقييم لفكرها من وجهة نظر غير منحازة أو متعصبة، ولبيان مدى توافقها من عدمه مع منهج أهل السنّة والجماعة وبيان حقيقة انتمائها المذهبي وبيان مواقفها السياسية منذ نشأتها إلى يوم الناس .
ومن أدبيات الإمام إلى مريديه وتلاميذه ما يلي :
(يجب أن تعلموا أن مادة الخصام ليس من دأبنا وقد علمتم أن شأننا هو شأن أهل الله وهو أن يكونوا أرضاً لمن سواهم، يحملون من الأذى حملها، وينتجون خيرها – أما الخوض والجدال في الأمور الإعتقادية فهو الطامة الكبرى والداهية الغُرّى) .
(ويجب التنبيه هنا إلى أن هذا المبدأ لا يعني تمييع القضايا كما قد يفهم البعض، بل هو مبدأ ينطلق من العلم الشرعي الصحيح واختبار الرأي الصحيح والترجيح، ثم بعد ذلك نلتفت للخلاف، فهنا الخلاف ليس معوقاً للحركة، وإنما هو رصيد تختار منه ما تراه صواباً وحقاً ثم تتجاوزه ولا تقف عنده) .
(أيضاً لا تقبل الدعوة البحث في الأمور العقائدية، ذلك أن العقيدة أمر لا يُسمع ولا يجب الخلاف فيه لأنها – أي العقيدة – متقرّرة وثابتة ومتوارثة عبر أجيال المسلمين) .
ولو كان (الطاغية) قد أدرك هذه المفاهيم والتعاليم وسار على نهجها لما تطور الجدال واشتط النقاش بينه وبين السيد الإمام موسى الصدر إمام الشيعة في لبنان خلال زيارته إلى ليبيا (بدعوة من الطاغية) في أواخر شهر أغسطس 1978، تلك الجلسة التي انتهت بإصدار الأمر بإعدام هذا الإمام ورفيقيه (عباس ويعقوب)، تُرى ماذا لو اختار الطاغية مبدأ نصيحة أو فلسفة أو رؤية الإمام السنوسي التي تقول : (هنا الخلاف ليس معوّقاً للحركة وإنما هو رصيد تختار منه ما تراه مناسباً وحقاً ثم تتجاوزه ولا تقف عنده .
ترى لماذا لم يخطر على بال الطاغية أن يطبق هذا المبدأ ؟!
ثالثاً : من الأمور التي تميّز هذه الدعوة عن غيرها من الدعوات في ذلك العصر هو رؤيتها الصحيحة للوضع السياسي، ولذا نراها لا تواجه الدولة (الخلافة العثمانية) وتعتقد في صحتها وإن كان هناك بعض الملاحظات من أهمها ضعف الإيمان لا الضعف الديني والاعتقاد، وعدم استيفاء بعض الشروط كشرط (القرشية) في الخليفة ولم توجّه حربتها إلى صدر الخلافة، رغم ذلك .
هذا في حين نجد أن الدعوة الوهابية قد حملت السلاح في وجه دولة (الخلافة) والحركة المهدية لم تعتبر ولم تقم للخلافة وزناً، مما يفسّر لنا سبب رضا الدولة (العثمانية) عن الحركة السنوسية، ولذا فإن الدولة العثمانية أصدرت مراسيم تبيّن فيها رضاها عن الحركة وتقرّ فيها أوقاف الحركة وزواياها وتوصي بدعمها .
وفي رأي المرحوم الدكتور أحمد صدقي الرجاني حسب ما ورد في كتابه (الحركة السنوسية في القرن التاسع عشر) :
الحركة السنوسية بما توفر لديها من المسائل البسيطة المتاحة من أجل الحفاظ على الوجود الديموغرافي والجيوغرافي للإسلام في أفريقيا عبر إتباع نظام الزوايا، الذي حاولت به بناء قوة عربية وإسلامية متكاملة متعاضدة بغية النهوض بالإسلام والمسلمين وذلك عبر الزوايا المتعدّدة التي انتشرت على نحو مكثف وملحوظ في منطقة الصحراء الأفريقية وفق نظام مؤسساتي شرعي في ضوابطه وأطره المرجعية، مُحكم في نظامه وهيكلته، دقيق في بنائه وتشييده، مؤسَّس فوق ذلك بكمّ متناسق من المحدّدات والأطر المرجعية للدين الإسلامي .
وفي المقابل نرى الإمام السنوسي يعدّ ويستعد للمواجهة مع الدول الغربية التي احتلت الجزائر في تلك الفترة ، فوجه اهتمامه إليها، ولا شك أنه تأثر بهذا الحدث في العالم الإسلامي فلم يستطع السكوت عليه فيما بعد ، فكان يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله ضد النصارى والكفار المحتلين المتكبرين المبشرين بالصليب ، لكنه لا يدعو إلى تكفير المسلمين أو      نبش قبورهم .
وهذا أمر شعر به الفرنسيون وتنبهوا له، لذلك فإن الرحالة الفرنسي : ويلفرد قال في ذلك :
(إن السنوسية هي المسئولة عن جميع أعمال المقاومة ضدنا في الجزائر) (إن الحقيقة التي يجب أن لا نغفل عنها أو نتغافلها هي أن الطريقة السنوسية أخطر الأعداء على نفوذنا – نحن الفرنسيون – في شمال أفريقيا وفي السنغال، وأنها العقبة الكأداء في سبيل توسعنا السياسي والاقتصادي داخل أفريقيا) والحق ما شهدت به الأعداء وهذا ما جعل الحكومة الفرنسية توصي إلى الدولة العثمانية بأن الحركة السنوسية تدعو إلى إضعاف الدولة العثمانية (د. أحمد صدقي الرجاني في كتابه المشار إليه آنفاً) مما أثار شكوك الأخيرة، لكن تبيّن ، ومن خلال من أوفدته إليهم، كذب وإفتراء الحكومة الفرنسية فلم تعبأ بها .
ويتابع الإمام السنوسي إسداء النصح للمسلمين فيقول :
يجب على المسلم المعاصر ألا يغفل عن عدوه الحقيقي وأن يكون ذا نظر ثاقب للأمور وذا بصيرة نافذة يحلل بميزان الإسلام الطرق والوسائل التي يتعامل بها مع الآخرين . وكم جرّ على الحركات الإسلامية من مآسي جهلها بعدوّها الحقيقي !!
فتراها تهاجم في غير عدو وتقاتل في غير مقتل، كأولئك الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على مسائل فرعية ظنّية يرفعونها لرتبة القطعيات والمسلمّات، ويصفون مخالفيهم فيها بالابتداع والضلال مع أن الحق في الأغلب الأعمّ ليس معهم، والله المستعان على كثرة الجهل وقلّة العلم.
كما يقول بعض السّذج وبعض العلمانيين وبعض المتطرفين من يسار ويمين، وإنما هي منهج تربية وجهاد وعلم وعمل ومصحف وسيف وفكر وحركة .
رابعاً : ومن آراء السيد محمد بن علي السنوسي البارزة هي دعوته إلى العمل بكتاب الله وسنّة رسوله في المجال الفقهي، ورفضه للتقليد الذي أوجبه المتأخرون وحملوا الناس عليه، وأغلقوا باب الاجتهاد !
والمقصود هنا هم أمثال الشيخ عليش والبولاقي والحنيش من علماء الأزهر في العام 1824م، الذين بالغوا في تخطئته إلى حد تكفيره واعتباره مبتدعاً في الدين، وقيل أن الشيخ الحنيش هذا حاول زيادة على ذلك أن يدسّ السم للسيد الإمام للتخلص منه (وفي كتاب آخر لا يحضرني اسمه أن السيد محمد إدريس حفيد الإمام – قد نفى هذه الجزئية وأنكرها) وكان الإمام قد حضر إلى مصر الأزهر في العام 1824م في عهد محمد علي باشا حسب ما ورد في كتاب (السنوسية دين ودولة – د. محمد فؤاد شكري) – وهذا لا يعني رفض الاجتهادات التي جاء بها الأئمة الأربعة واستقر عليها عمل الأئمة قروناً ودهوراً، وإنما هو نظر واستدلال . ومع هذا فقد كان الإمام السنوسي يفتي بمذهب الإمام مالك مع إدعائه الاجتهاد، ذلك لأن المسلمين في بلاد المغرب (من ليبيا والأندلس) يتبعون عقيدة الأشعري وفقه الإمام مالك . فهو يرفض القول بإقفال باب الاجتهاد ولكن لا يعني هذا أنه يولج بلا شروط وبلا ضوابط – كما نرى بعض الناس يفعل .
خامساً : ومن الخصائص التي إمتازت بها الطريقة السنوسية هي الربانيّة المتمثلة في الطريقة الصوفية السائرة على منهج الكتاب والسنّة . فالطريقة الصوفية هي وسيلة للترقي بالنفس وتهذيبها ومعالجتها من شهواتها الفاسدة وتطويعها لله سبحانه .
كانت هذه الصفحات ترجمة موجزة قدر الإمكان للجانب السياسي والدعّوي للطريقة السنوسية .
وما أن استقر الإمام السنوسي في واحة الجغبوب وأنشأ فيها زاوية البيضاء عام 1856م واتخذها مركزاً ومنطلقاً لدعوته حتى غدت مؤسسة متكاملة تضم جميع مرافق الحياة الدينية والدنيوية وتسامع الناس به فزحفوا نحوه بالآلاف ما بين طلاب علم ومريدي طريقة، وأنصار دين من كل حدب وصوب، وصار الإمام السنوسي يرسل الدعاة والمريدين والاخوان المحبّين إلى جميع أنحاء ليبيا والسودان وأوساط أفريقا إلى النيجر وبحيرة تشاد التابعة لنفوذه حينذاك ويجب اعتبار ما قام به طيلة حياته من تلقي علم وتلقين وبحوث في علم وتدريس علم للدعاة والمريدين والطلبة والمحبين ثم إرسالهم موفدين لنشر الدين الإسلامي وتوعية من هم جاهلين في مجاهل أفريقيا وتلقينهم أصول الدين والشّرع ليعلّموا غيرهم ويتخرج على أيديهم معلمين وهكذا – أقول أنه يجب اعتبار كل ما قام به هذا الإمام هو بمثابة جهاد وفتح فانفتح بالعلم صنو للفتح بالسيف، والفتح بالعلم يغني عن الفتح بالسيف بل ويقوم مقامه، أما الفتح بالسيف فليس بالضرورة أن يؤدي إلى علم أو حتى إيمان بدليل وجوب الجزية على من يرضخون للفاتح سياسياً، ولكن من ناحية الدين فإنهم يبقون على حالهم مع جواز دفع الجزية .
نخلص إلى أن ليبيا مرت بثلاث مراحل : الأولى ماجوسية البربر في غرب ليبيا وجنوب غربها ثم (تبزنطه) (ورومنته) ثم (أسلمته) عنوة ثم (رِدّته) مرات عديدة واسترجاعه بعد تأديبه إلى أن حلّ النصف الأول من القرن الهجري حيث استقرّوا على مذهب الأباضية الذي أسسه عبد الله بن أباض التميمي ويعتبر مذهباً جديداً للخوارج، وبقوا على هذا المذهب إلى يومنا هذا.
أما المرحلة الثانية وبالنسبة للبقية الباقية من سكان ليبيا فقد كان إسلامها يعاني من الجهل والتهاون من قبل السكان، وهم غير ملتزمين بأحكام الدين وقوانين الشريعة وينقصهم الفهم في معنى الدين، إذ علقت بالعقيدة عندهم أوهام وخرافات وبدع لا مجال لتفصيلها، وهم في حاجة إلى فتح جديد لتقويتهم ووضعهم على الجادة .
ومن أجل هذا الغرض فقد قيض الله لهم من يقوم بهذا العمل الخطير، وهو الإمام المصلح محمد بن علي السنوسي، وبالفعل فقد تم كل شيء على يده بتوفيق من الله، كما هو موضح في الصفحات السالفة .
أما المرحلة الثالثة فهي ما أطلقتُ عليها مرحلة أسلمة الإسلام وإنطلاق أنبياء جدد ، ودعوات بالتكفير ونبش قبور شيوخ ودعاة لعقيدة الإسلام قضوا منذ قرون ، فكيف ذلك ؟