السبت، 24 مارس 2012

إحياء علوم السياسة (الحلقة 2)

إحياء علوم السياسة
الحلقـــــة (2)                                                             بقلم : إبراهيم السنوسي إمنينه
3/3/2011 م             


يسوسون البلاد بغير عقل      فينفذ أمرهم ويقال ساسة
                                        فأفٍ من الحياة وأفً مني              ومن بلدٍ سياسته خساسة
ثالثاً : علينا أن نتعلم كيف نشأ هذا العلم وهو علم السياسة وهو اللون الحديث من المعرفة ، وكيف استطاع عبر مغامرات فكرية متنوعة ان يغدو علماً قائماً بذاته مستقلاً عن سائر (العلوم السياسية) ، وانظر كيف في نفس الوقت لا تستغني عنه بعض العلوم مثل الاجتماعية والاقتصادية والاعلام كما أوضحنا في متن الحلقة الأولى من هذا المقال – تلك التي يختلط بها ويتشعب فيها فتغلفه من كل جانب بموضوعاتها المتداخلة والمتشابكة وذلك منذ أن وضع أرسطو وهو "الممنهج والمحرك الأول" طريقته العلمية المبنية على المشاهدة والاستقراء "The PrimeMover and Methodist" مروراً بالمفكرين السياسيين من فلاسفة النصرانية والاسلام، في العصر الوسيط ، وجلّهم ممن كان لا يرى في السياسة إلا زاوية من التعاليم المنزلة والمبادئ الأخلاقية Ethical Principles، إلى أن بلغ العصر الحديث عندما قام نيقولا ميكافيللي منذ حوالي خمسمائة عام بإنشاء طريقته الواقعية في وصف سياسة الحاكم في كتابه المثير للجدل المعنون يـ "الأمير"، متنافية بحقيقتها مع المثالية، وغير مبالية بالأخلاق،
هذه الطريقة التي جعلت اسم صاحبها مترادفاً، بلا حق ولا صواب، مع مصطلح "الميكافيليه" الممقوته في الظاهر والمتبعة بالفعل والواقع ولعله كان خير ممثل لهذا التناقض "عاهل بروسيا فريدريك الثاني" في القرن 18 الذي وضع كتابه المعروف "بالآنتي ميكافيلي" أي المخاصم لميكافيلي ومبادئه، هو الذي اشتهر بالتفنن في طرق السياسة وحبائلها .
وقد اتبع جان بودان أسلوب ومقترحات ونصائح نيقولا ميكافيلي المشار إليه، فأوجد للدولة العصرية عمودها الفقري في نظرية السيادة لكي يجعل المملكة الفرنسية مستقلة عن الباباويه والامبراطورية ، وهذه هي المنهجية التي انطلقت منها الأفكار والنظريات لتتوالد وتتعاقب في سلسلة مستمرة من التطور الفكري الذي أوصل العلم السياسي أخيراً إلى مرحلته الموضوعية في عصرنا هذا، ونذكّر بما أسلفنا في الحلقة الأولى من هذا المقال من أن علم السياسة هو علم متجدد ومتمدد، وينمو بوتيرة سريعة جداً وذلك بسبب اتساع ميادينه وتوالد مواضيعه .
وإذا كان أرسطو الفيلسوف هو الذي وضع طريقته العلمية المبنية على المشاهدة والاستقراء، وهو "المحرك والممنهج الأول" كما ذكرنا أنفاً – بالنسبة "لعلم السياسة" الذي نحن الآن بصدده – يأتي الدكتاتور بنيتو موسوليني مبدع المبدأ الفاشستي في إيطاليا – في معرض أطروحته التي قدمها في العام 1924 وعنوانها "السياسة والحكم" –ويقول انه في يوم من الأيام قد اتصل به رجال فرق القمصان السوداء (اللجان الثورية) في بلدة "ايمولا" في إيطاليا لإفادته بأن سيفاً سيُهدى إليه منقوشاً عليه قول ميكافيلي " ليست المحافظة على الدولة بالكلام" وكان هذا هو الذي وضع حداً لتردده ، وتحدد إختياره لموضوع الأطروحة التي يقدمهالذلك الكتاب وهو "الأمير – لميكافيللي" ، والذي سوف يطلق عليه "ملازم لرجل الحكم" يعني ملازماً لرجل الدولة ولا يغيب عن ناظريه وأن يكون في متناول يده في كل زمان ومكان وان يداوم على قراءته قراءةً واعية ومتمعنة .
يستطرد الطاغية الدكتاتور بينيتو موسولويني أو "الدوتشي" كما كانوا يطلقون عليه في العشرينيات من القرن الماضي، والذي كانت نهايته شبيهة بنهاية الطاغية المقبور كما كانت ممارساتهما في الحكم شوفينيه وفي الحروب فاشلة وفي التطلعات مستحيلة فهذا يسمى لبييا "الشاطئ الرابع لإيطاليا" وذلك نصب نفسه إمبراطوراً على أفريقيا، وصاحبنا قمصان خضر وذاك قمصان سود، وصاحبنا أغرقه عبد الناصر قبل ان يغادر، وذاك أغرقه هتلر قبل أن ينتحر وُزجّ به في أتون حرب جهنمية عالميه، ثلاثتهما واجهوا نفس المصير البائس ، "فإلى حيث حطت رحلها أم   قشعم !!" – أقول يستطرد الدكتاتور موسوليني قائلاً : إذا كانت السياسة هي من حكم البشر ، أو بعبارة أخرى تربية أهوائهم وأنانياتهم ومصالحهم بالنظر إلى غايات نظام عام يكاد أن يخرج دائماً على نطاق الحياة الفردية – لأنها غايات تمتد إلى المستقبل ، فإذا كانت تلك هي السياسة، فلا ريب في أن الإنسان هو العنصر الجوهري لهذا الفن، ومن هنا يجب أن تكون نقطة الانطلاق .
والواقع أن النتيجة الواضحة حتى من قراءة سطحية لكتاب الأمير، والكلام لا يزال لموسوليني ، هي تشاؤم ميكافيلي العنيف فيما يخص الطبيعة البشرية . انه يحتقر البشر، شان هؤلاء الذين أتيحت لهم الفرص لمعاملة أندادهم معاملة رحبة ومتصلة ويحب أن يقدمهم إلينا في مظاهرهم السلبية كأشد ما تكون السلبية، والدنيئة كأحط ما تكون الدناءة .
إن البشر عند ميكافيلي، والكلام لا يزال لموسوليني، خبثاء يتمسكون بالمصالح المادية أكثر من تمسكهم بحياتهم الخاصة، وهم على استعداد لتغيير اهوائهم وعواطفهم، ويعبر ميكافيلي عن فكرته هذه بقوله : "قد يقال عن الناس بصورة عامة، أنهم ناكرون للجميل، متقلبون، مراءون، منافقون، ميالون لتجنب الأخطار، شديدو الطمع وهم إلى جانبك، طالما أنك تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم وحياتهم وأطفالهم وكل ما يملكون طالما كانت الحاجة بعيدة ونائية ولكنها عندما تدنو منهم يثورون، ومصير الرئيس الذي يركن إلى وعودهم دون اتخاذ أي استعدادات أخرى فإلى دمار وخراب ، إذ أن الصداقة التي تقوم على أساس الثراء وليس على أساس نبل الروح وعظمتها هي صداقة زائفة تشترى بالمال ولا تكون أمينة موثوقة وهي عرضة لأن لا تجدها في خدمتك في أول مناسبة وسوف لن يتردد الناس في الإساءة إلى من يخشونه إذ أن الحب لا يرتبط بسلسلة من الالتزام التي قد تتحطم بالنظر إلى انانية الناس عندما يخدم تحطمها مصالحهم بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب .
وهي قمة الخوف والارتعاد وحساب ألف حساب ، والكلام لا يزال لموسوليني : فيما يتعلق بالأنانية فإنني أقول إني عثرت بين الأوراق الميكافلية على ما يلي :-
"إن الناس يحزنون لضياع أو استلاب ملكية ضاعت منهم حزناً يفوق حزنهم على موت اب أو اخ ذلك لأن الموت يُنسى أحياناً ويهون الأمر أما ضياع الثروة فلا يُنسى أبداً وسبب ذلك بسيط فالكل يدري أن تغيير دولة لا يمكن ان يعيد فقيداً أبداً ولكن قد يعيد اكتساب أو استرجاع  ملكية. 
ويتابع موسوليني قراءته لما كتب ميكافيلي فيقول :
"أشار جميع كتاب السياسة عبر التاريخ الطويل الحافل بأمثلة تقيم الدليل على أنه من الضروري لمن يعدّ جمهورية وتعلن فيها نظماً أن يفترض أن جميع البشر خبثاء ولديهم استعداد لاستخدام خبثهم حين تواتيهم الفرصة لذلك إن البشر لا يفعلون أي خير ابداً إلا إذا دعتهم الضرورة لذلك، لكن هناك حيث تتوفر الحرية، وحينما يمكن أن تكون لدينا فوضى يمتلئ كل شيء في الحال بالاضطراب وعدم النظام.
وفي آخر الأمر فإن موسوليني يقرّ بأن ميكافيلي لم يفكر فحسب في أبناء عصره من أهل فلورنسا وتوسكانيا والايطاليين الذين عاشوا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، ولكن في البشر كافة دون حصر زماني أومكاني، أما الزمن فقد انطوت منه حقب ، ولكن لو أتيح لي أن أحكم على أمثالي وعلى أبناء عصري فقد لا أستطيع أن أكون اقل أو أضعف من حكم ميكافيلي، وقد يكون من واجبي أن أنظر إليه باحترام أكثر وأهمية مفرطة .
ميكافيلي نفسه لا ينخدع وهو لا يخدع الحاكم . إن التعارض في فكر ميكافيلي بين الحاكم والشعب من جهة وبين الدولة والفرد من جهة أخرى تعارض محتوم وهذا ما أطلق عليه تسمية النفعية والبراغماتيه Utilitarianism & Bragmatism أما السلبية الميكافيلية فإنها تنبع بصورة منطقية من الموقف المبدئي وعلينا أن نفهم من كلمة امير الدولة في فكر ميكافيلي بأن الأمير هو الدولة وأن الدولة تمثل تنظيما ًوتحديداً بينما الأفراد تدفعهم أنانية مفرطة فينزعون إلى الخمود الاجتماعي . إن الفرد بطبيعته ينزع إلى الهروب باستمرار، ويميل إلى عصيان الأوامر والقوانين وعدم دفع الضرائب والامتناع عن تلبية نداء الوطن لخوض الحرب . قليل هم الأبطال والقديسون الذين ضحوا بمصلحتهم على مذبح الدولة وغير هؤلاء جميعاً في حالة ثورة مكبوته ضد الدولة . إن ثورات القرنين 17 و18 قد حاولتا حل هذا الصراع الذي يكون عند قاعدة وكل تنظيم اجتماعي لدولة، ولذلك بأن أظهرت السلطة وكأنها صادره عن إرادة الشعب الحرة وهذه خرافة إن لم تكن وهماً لأنه أولاً لم يكن بالإمكان تعريف الشعب أبداً، وهو ككيان شيء أساسي وهو كيان مجرد تجريداً بحتاً . إننا لا نعرف معرفة دقيقة لا من أين بدأ ولا أين ينتهي. إن صفة السيادة حين تطبّق على الشعب تكون سخرية مؤلمة فالشعب يرسل على أكثر تقدير ممثليه (نوابه) إلى المجالس أو البرلمانات غير أنه في الحقيقة لا يمارس أية سيادة . إن النظم التمثيلية تخص الآلية أكثر من الأخلاق ،وفي البلاد نفسها التي تستخدم فيها هذه الآلية (أي البرلمانات) أعظم استخدام منذ قرون وقرون تأتي ساعات حاسمة لا يطلب فيها من الشعب شيء أكثر من ذلك لأننا نشعر أن الجواب قد يكون مهلكاً وتنزع من الشعب تيجان السيادة الورقية وهي تيجان مجدية في الأوقات العادية فقط لكنها ليست صولجانات والشعب يؤمر أما لثورة أو لسلم أو المضي نحو حرب مجهولة ولا إجراء آخر –فليس للشعب سوى الرضوخ والطاعة.  
إن السيادة التي تمنح للشعب بلطف تُسحب منه في اللحظات التي قد يستطيع فيها أن يشعر بالحاجة إليها وتركها له وحده عندما تكون غير ضارة أو ممدوحه كذلك وبعبارة أخرى في لحظات الإدارة العادية.
هل تصورتم حرباً أعلنت بالرجوع إلى الشعب ؟ إن الاستفتاء يسير سيراً حسناً جداً عندما يكون بصدد اختيار أنسب مكان لوضع نافورة في القرية ولكن عندما توضع المصالح العليا للشعب على المحك وفي الميزان فإن الحكومات البيروقراطية تعلم جيداً كيف تتقي نفسها ولا ترجع القرار في ذلك لحكم الشعب إذ هناك عل الدوام الصراع قائم بين القوى المنظمة للدولة وبين شرائع الأفراد والجماعات خصوصاً في دولة مثل (الجماهيرية) وغيرها من الدول العربية المتخلفة فالصراع دائماً يتخذ شكلاً صورياً ورقياً ويكون هناك طرفان : القائد الشمولي وحواريه مقابل الطرف الآخر وهم مثلاً : أعضاء مؤتمر الشعب العام البؤساء والأغبياء المعينين حيث تناقش الميزانية حيث إيرادات النفط مغيبّة وحيث لا نقاش لأي أمر يمس الوزارات السيادية كالدفاع والداخلية والأمن والخارجية والمالية ، بل مسموح فقط أن تناقش أمور تافهة كبناء مستشفى متخصص لعلاج الايدز في واغادوغو ، أو مناقشة مكان إقامة تمثال لجمال عبد الناصر أو نقل رفات عمر المختار من بنغازي إلى سلوق .
وعودة إلى مقولة لمكيافيلي قال فيها :
" لذلك حدث أن انتصر جميع الأنبياء غير العزّل (الذين يحملون السلاح) وهلك الأنبياء العزّل ، لان طبيعة البشر متقلبّة ، ومن السهل أن تستميلهم إلى أمر من الأمور ولكن من الصعب أن نُبقى على ايمانهم هذا ، ومن هنا وجب تنسيق الأمور بحيث يمكننا استخدام القوة لنكرههم على الإيمان بما ارتدّوا عنه . ولو كان موسى وقوروش وروميلوس عزّلاً لما استطاعوا أن يحملوا غيرهم ، أي رعاياهم ،على ممارسة طقوس شرائعهم أمداً طويلاً "*
* هذا رأي يخص ميكافيلي وهو لا يمثل إلا نفسه .
إن قوروش ورومليوس ليسا من الأنبياء وموسى لم يحمل السلاح حتى على فرعون ، وكان قد تبرأ من قومه قائلاً :    " ربِ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فأفرق بيني وبين القوم الفاسقين "(المائدة 25)

؛؛؛؛؛ وإلى اللقاء في الحلقة القادمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق