الثلاثاء، 20 مارس 2012

ذاكــرة الأيــام (حلقة 1) ب

                                   ذاكرة الأيام
الحلقة 1 / الجزاء الثاني
بقلم : إبراهيم السنوسي امنينه

     ولانتباه الشخص الذي تطوع وحذف البيت الذي يقول : "حي إدريس سليل الفاتحين من النشيد الوطني" تابع سلسلة ذاكرة الأيام - 6
       نتابع مذكرات الملك إدريس رحمة الله عليه، التي جاءت على لسانه، وكذلك نتناول عرض المشهد التاريخي لجهاد السنوسيين في سنوات الحرب العالمية الأولى بقيادة السيد أحمد الشريف والتعليق عليها من قبل Mr. E. F. Decandol  الوزير البريطاني المفوض في ليبيا في كتابة "الملك إدريس عاهل ليبيا حياته وعصره" يقول صاحب المذاكرات : 

     في عام 1330 هـ (الموافق 1912م) بلغت سن الرشد في الكفرة، فطلب مني بعض الإخوان السنوسيين بالأصالة عن أنفسهم ونيابةً عن غيرهم أن أتسلم مسؤوليات المرحوم والدي من السيد أحمد الشريف الذي كان يومها يتأهب للرحيل إلى الجغبوب بناء على طلب أنور باشا حتى يكون على مقربة من المجاهدين. وكان ردي على طلب الإخوان هو أن السيد أحمد مشغول بالاستعداد للسفر، وأننا على حافة الحرب مع إيطاليا، فلا أرى من المناسب أن أستلم منه في وقت كهذا . ثم أنني أقدر خبرته الطويلة المجربة في إدارة شؤون الطريقة، ولكن متى استقرت الأحوال فسوف نلبي رغبتهم، ولا شك أن السيد أحمد سوف يوافق على ذلك .  وسافر السيد أحمد إلى الجغبوب، بينما بقيت أنا في الكفرة عاماً كاملاً تدربت خلاله على تسيير الأمور المتعلقة بمسؤولياتي المقبلة. وفي تلك الأثناء تخلت تركيا عن البلاد لإيطاليا (بمقتضى معاهدة لوزان المبرمة في سنة 1912). وبينما كان السيد أحمد يحارب الإيطاليين، قررت أن أذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج ثم أعود لمساعدته .   وبتاريخ الرابع من شوال (الموافق أغسطس 1913) غادرت الكفرة برفقة ثلاثة من الإخوان- هم الحاج محمد التواتي (ابن أحد مستشاري السنوسي الكبير) والحاج فرج والحاج على العابدية (وهو زعيم سنوسي معروف ولد سنة 1870). وكان معنا أيضاً شيخ إحدى الزوايا الثلاثة وثلاثة من الخدم، منهم واحد سوداني، بالإضافة إلى حداة الإبل. وكنت أركب فرسي، وتحمل أمتعتنا الجمال. وسرنا بطريق القوافل الرئيسي الذي يمر بمناطق  طلاب وربيانة وبوزيمة وزيغن وأبو عشكة وبوطفل مؤدياً إلى جالو، فاستغرقت الرحلة إلى هناك واحداً وعشرين يوماً منها ستة عشر يوماً من السفر الفعلي، إذ كنا نسير ليلاً ونستريح بالنهار كالمعتاد أثناء الصيف. وقضينا تسعة أيام في جالو التي كانت مركزاً تجارياً هاماً ثم أخذت مكانتها في التدهور على أثر إغلاق طريق القوافل من الساحل إلى واداي. وبعدئذ واصلنا السير نحو الجغبوب مروراً بخربة وقطمر وترفاوي وعبد السلام، واستمرت الرحلة كلها ستة عشر يوماً منها ثلاثة عشر يوماً من المسير .
     ومكثت بالجغبوب سبعة أشهر في بيت أبي. وكان المعهد الذي أسسه جدي هناك لا يزال مزدهراً. وفي شهر جمادي الثاني (الموافق لأبريل 1914)  غادرت الجغبوب متجهاً إلى مصر مع نفس الجماعة وكذلك الحاج يونس العابدية الذي انضم إلينا في الجغبوب. وبعد مسيرة سبعة أيام وصلنا إلى الساحل عند مكان يسمى بقبق (بالقرب من السلوم) حيث شاهدت البحر للمرة الأولى في حياتي. ثم سافرنا إلى الضبعة (التي كانت في ذلك الوقت آخر محطة للسكك الحديدية المصرية من ناحية الغرب) ومررنا في طريقنا بمرسى مطروح حيث رحبت بي السلطات المصرية، كما الزوايا السنوسية في كل من سيدي البراني وشماس ونجيلة وأم الرخم وأبو هارون. ولدى وصولنا إلى الضبعة استقبلنا صالح الحرب، وهو ضابط مصري جاء مندوباً عن الخديوي عباس (أي عباس الثاني، خديوي مصر من 1892 إلى 1914)، ثم سافرنا إلى الإسكندرية بقطار خصوصي، ونزلت ضيفاً على الخديوي في قصر رأس التين. ولقيت ترحيباً حاراً من المصريين، فهم على الرغم من حيادهم رسمياً في الحرب مع إيطاليا كانوا يؤيدون إخوتهم المسلمين ويبذلون كل ما في وسعهم لمساعدة السنوسيين بإمدادات السلاح والمعدات الطبية. وفي ذلك الوقت كان اللورد كتشنر يشغل منصب المندوب البريطاني في مصر .
      وبقينا في الإسكندرية تسعة أيام بانتظار باخرة بريد الخديوي إلى حيفا، ثم سمعنا أنها سوف تعّرج على ميناء بور سعيد فاستقلينا قطاراً خاصاً تفضل به الخديوي أيضاً لنقلنا إلى هناك حيث ركبنا الباخرة وأبحرت بنا عند الظهر في نفس اليوم. وكانت الرحلة مريحة وصلت بعدها إلى حيفا يوم 24 رجب فاستقبلني الوالي التركي استقبالاً رسمياً، وبعدها مباشرة سافرنا بقطار إلى المدينة يقوم بثلاث رحلات أسبوعياً وتستغرق رحلته ثلاثة أيام يمر فيها بعدة محطات رئيسية، وهي درعا وعمان وتبوك ومدائن صالح. وهو كان مريحاً رغم بطئه، ويضم ثلاث عربات للنوم وواحدة للأكل، كما وجدت به زريبة لفرسي .
     وبقيت في المدينة خمسة عشر يوماً كان الجو أثناءها قائظ الحر، فداهمتني الحمى، ولذا نصحت بالانتقال إلى مكة لأن جوها ألطف قليلاً. ومع أن موسم الحج لم يكن قد حل بعد، إلا إنني امتطيت فرسي وانطلقت في رحلة المائتي ميل من المدينة إلى مكة، فقطعتها خلال أحد عشر يوماً من السفر الوئيد أثناء الليل والراحة في ظل خيمة بالنهار وبعد إقامة  أيام بمكة نصحني البعض بالذهاب إلى مدينة الطائف الواقعة وسط التلال في جنوبي مكة، وكان الشريف حسين (أمير مكة الذي أصبح فيما بعد ملك الحجاز من عام 1916 إلى 1924) يمضي بها فصل الصيف مع ولديه عبد الله وفيصل .
     وقضيت في الطائف 75 يوماً، بما فيها رمضان وشوال (الموافق لشهر يونيه من عام 1914). وكان جوها لطيفاً بالفعل، فاستعدت صحتي تماماً. وفي تلك الأثناء حدث اغتيال أرشيدوق النمسا في ساراييفو، واندلعت الحرب العالمية الأولى (بتاريخ 4 أغسطس 1914). وبعدئذ توجهنا إلى مكة لأداء مناسك الحج (في أكتوبر 1914)، ونزلت بالزاوية السنوسية في أبو قبيس. ثم انتقلنا إلى المدينة فاضطررنا إلى البقاء فيها مدة شهرين لانقطاع المواصلات بسبب الحرب. وكان قد انضم إلينا في مكة اثنان من عرب برقة المعروفين وهما رشيد الكيخيا وعلي العبيدي .
    وفيما كنا ننتظر بالمدينة أثناء شهر نوفمبر قامت الحرب بين بريطانيا وتركيا، فحاول الأتراك المسيطرون على الحجاز أن يحملوا العرب على الوقوف في صفهم، كما أخذ البريطانيون في التقرب إلى العرب على نحو مماثل. غير أن الشريف حسين التزم موقف الحياد، متجنباً إعطاء أي رد مباشر على الدعوة التركية إلى إعلان الجهاد. وفي ديسمبر، عندما استأنفت القطارات رحلاتها العادية، سافرنا إلى حيفا حيث استضافنا الوالي التركي أبو شاهين. وهناك اكتشفنا أن الاتصالات مع مصر شبه مقطوعة تماماً  والأتراك كانوا يتقاتلون قرب قنال السويس وكان البريطانيون قد أعلنوا الحماية على مصر لأن البريطانيين بعد خلع الخديوي عباس الثاني واستبداله بعمه حسين كامل الذي منح لقب السلطان.
    ولما كانت هناك باخرة إيطالية تقوم برحلات منتظمة بين حيفا ونابولي عبر ميناء بور سعيد، فقد أرسلنا واحداً من جماعتنا لاستطلاع إمكانية السفر بهذا الطريق. وجاءنا رده مشجعاً، فحجزنا أماكن على الباخرة، غير أن القبطان قال أن لا يضمن السماح لنا بالنزول في بور سعيد، نظراً لأن السنوسيين كانوا حلفاء للأتراك وبالتالي فإننا نعد نظرياً من رعايا دولة معادية. ولكن العلاقات في ذلك الوقت كانت قد تحسنت نوعاً بين السنوسيين والإيطاليين الذين أخذوا يسعون إلى التفاهم مع السيد أحمد الشريف، فاتفقنا على دفع عربون لقبطان الباخرة بحيث يحملنا إلى نابولي في حالة ما إذا رفض البريطانيون أن يسمحوا لنا بالنزول في بور سعيد، ومن نابولي يدبر الإيطاليون أمر ترحيلنا إلى برقة متى حانت الفرصة.
      وهكذا غادرنا حيفا في فبراير 1915، وقد اضطررت للأسف إلى ترك فرسي هناك لأن القبطان لم يجد لها مكاناً على الباخرة. وهي (أعني الفرس) كانت من سلالة برقاوية تربت في أرياف الجبل الأخضر، وكان قد أهداها إلى خليل البناني. وقد حملتني طول الطريق من الكفرة إلى مكة، ثم في طريق العودة كذلك، فتأسفت كثيراً لتركها في حيفا حيث ماتت بعدها بمدة قصيرة .
     ولدى وصولنا إلى بورسعيد طلبنا من رفيقنا على العبيدي أن يسبقنا في النزول إلى البّر حتى رأيناه مرّ بسلام فتبعناه كلنا في زحمة الحجاج متظاهرين بأننا مصريون. وفور نزولنا إلى الشاطئ بعثنا برقيات إلى كل من السلطان حسين والجنرال ماكماهون الذي خلف اللورد كتشنر في منصب المندوب السامي البريطاني بمصر. وتلقينا منهما استجابة ودية، فتوجهنا إلى القاهرة في ضيافة السلطان حسين. وفي أثناء ذلك قمنا بزيارة لكل من الجنرال ماكسويل، قائد القوات البريطانية في مصر، والكولونيل كليتون، مندوب حكومة السودان المقيم بالقاهرة، فناقشنا معهما أوضاع العلاقات السنوسية الراهنة مع الأتراك والإيطاليين والبريطانيين. وأعرب الاثنان عن رغبتهما الأكيدة في أن نقطع علاقاتنا مع الأتراك ونؤيد البريطانيين في الحرب أو نبقى محايدين على الأقل .
    وكان ذلك أول لقاء بيني وبين البريطانيين وخرجت منه بانطباع جيد عن سلوكهم الودي وقوتهم العسكرية. ولم يكن بوسعي أن ألتزم بأي تعهد نيابة عن السنوسيين قبل استشارة السيد أحمد الشريف أولاً. لكنني وافقت على متابعة الاتصال من خلال علاقاتنا بعائلة الادريسي في مصر، ووافقوا من جانبهم على تسهيل عودتي إلى برقة .
   وبعد فترة إقامة قصيرة في القاهرة، ركبنا قطار الصباح إلى الإسكندرية. وفي نفس اليوم استقلينا باخرة لخفر السواحل وضعها البريطانيون تحت تصرفنا حتى أنزلتنا في السلوم، ومن ثم توجهنا إلى امساعد للالتحاق بمعسكر السيد أحمد الشريف. وكانت غيبتي عن برقة استغرقت عاماً كاملاً تقريباً . هنا نتوقف مؤقتاً عن سرد مذكرات السيد إدريس لنتابع المشهد التاريخي لجهاد السنوسية فنقول : لقد شكلّ  تراكم الأحداث اللاحقة مرحلة حرجة من تاريخ السنوسية. في عام 1915 كان القتال في ليبيا قد توقف تماماً، بينما ظلت القوات الإيطالية تحتفظ بقدر من السيطرة المشوبة بالتوتر الدائم في مناطق طرابلس وساحل برقة الممتد من بنغازي إلى طبرق والجبل الأخضر. أما مواقع السنوسيين فكانت تنحصر في جزء بسيط من المنطقة الساحلية ابتداءً من شرق طبرق لغاية الحدود المصرية، بالإضافة إلى سلسلة من المعسكرات المسلحة المنتشرة في العمق من امساعد إلى إجدابيا مروراً بالطرف الجنوبي للجبل الأخضر. وكان دور تلك المعسكرات هو احتواء القوات الإيطالية داخل الحزام الساحلي، فلم يكن من المتيسر استخدامها في غير ذلك من العمليات. كما أن القوة المرابطة في امساعد تحت قيادة السيد أحمد الشريف نفسه كانت قليلة العدد ومهمتها حماية الشريط الساحلي الضيق قرب البردي من الوقوع في أيدي المحتلين الإيطاليين .    
    وفور نشوب الحرب بينهم وبين بريطانيا انصرف الأتراك إلى عمل استعدادات لمهاجمة المواقع البريطانية في مصر على أمل التمكن من تدميرها بواسطة هجوم مشترك من الجناحين الشرقي والغربي. فأوفدوا نوري بك (أخ أنور باشا) إلى امساعد في فبراير 1915 لغرض تنظيم الجناح الغربي بمساعدة جعفر العسكري (وهو ضابط شاب قدير من أصل عراقي انضم فيما بعد إلى صفوف الثورة العربية ضد حكم الأتراك ثم تولى رئاسة الوزارة في العراق وقتل هناك أثناء انقلاب سنة 1963). وقد لقيا استقبالاً فاتراً في البداية لأن السيد أحمد الشريف لم يكن يريد إقحام نفسه في معركة جانبية مع البريطانيين، كما أيده في ذلك السيد إدريس الذي كان قد أقام معهم علاقات ودية أثناء رحلته الأخيرة عن طريق مصر فنصح باتخاذ موقف محايد إزاء الحرب بين بريطانيا وتركيا. غير أن السيد أحمد كان في نفس الوقت رجلاً عنيداً ميالاً إلى القتال بطبعه شديد الإيمان بالواجب الإسلامي المتمثل في خوض معارك ضد الكفار. ثم أنه كان لا يريد أن يخذل صديقه القديم أنور باشا.
    فلما دعا السلطان العثماني كل العرب إلى إعلان الجهاد ضد أعداء تركيا رأى السيد أحمد أن الواجب يفرض عليه تلبية نداء الحرب ضد البريطانيين مثلما سبق له الوقوف إلى جانب الأتراك في مواجهة الغزو الإيطالي. ولكن الفارق هذه المرة أن بريطانيا لم تكن تهدد بأي غزو للأراضي الليبية، كما أن سياستها تجاه السنوسيين كانت ودية وسلمية. ولهذا لم يعد واثقاً تماماً من صواب رأيه، فوجد نفسه في موقف الحائر المتردد. ومرّ الربيع والصيف من عام 1915 وهو لم يفعل أي شيء قد يستفز البريطانيين، بل إنه شجع السيد إدريس على محاولة التفاهم معهم بوساطة أسرة الإدريسي في مصر على أساس اتفاق يشمل تقديم معونة مالية مقابل الحياد في الحرب. ومن ناحية أخرى فإن ولاءه للأتراك دفعه إلى غض النظر عن الاستعدادات التي كان يقوم بها نوري بك لتجنيد وتدريب قوة عسكرية بقصد مهاجمة الانجليز. فلما تقاعس هؤلاء عن توفير المساعدات المادية التي تعهدوا بها، لم يجد حرجاً في قبول الأموال والإمدادات التي تقدم بها الأتراك بالتعاون مع حليفتهم ألمانيا .  
   ولعل من أسباب تأييده الضمني لتلك الاستعدادات التركية شعوره بالمسؤولية كوزير مفوض للسلطان في ليبيا واعتقاده الراسخ بضرورة الجهاد في سبيل الإسلام ضد أعداء الدين أياً كان جنسهم. وفي نفس الوقت بقي على الحياد متحفزاً ريثما تنجلي الأمور.
   وطوال سنة 1915 ظل نوري بك وجعفر العسكري منهمكين في حشد وتدريب المتطوعين من رجال القبائل الذين كان معظمهم من أهالي برقة مع قلة من أفراد قبيلة أولاد على المنتشرة في صحراء مصر الغربية، حيث كان للسنوسية نفوذ واسع. وهذه القوة التركية السنوسية المشتركة تم تزويدها بأسلحة ألمانية كانت ترد من تركيا بطريق البحر. وفي نفس الفترة نظم نوري شن عدة غارات متفرقة على الحامية البريطانية في السلوم. ومع أن موقف السيد أحمد لم يكن قد تحدد على نحو قاطع، بينما استمر في المحافظة على علاقات طيبة مع ضباط الحدود الانجليز، إلا أن الدلائل أخذت تشير يوماً بعد يوم إلى ان الهجوم على مصر بات وشيكاً. وقد ذكر جعفر باشا العسكري أيام كان سفيراً للعراق في لندن وهو يسترجع أحداث تلك الفترة البعيدة أن السيد أحمد لم يكن راغباً حقاً في محاربة القوات البريطانية آنذاك، إذ كان يدرك أن عليه أن يتصدى للإيطاليين في طرابلس والفرنسيين في الجنوب، وإنما جرّته إلى دخول الحرب عدة عوامل أخرى منها الحاجة إلى المعونات المالية وتأثير الدعاية المضلّلة التي كان يبثها جواسيس ألمانيا وعملاؤها في المنطقة إلى جانب الضغوط القوية التي طفق يمارسها أنور باشا من مركز نفوذه الكبير في القسطنطينية (اسطنبول) .
  وكانت الشراراة التي أشعلت فتيل الصراع هي حادثة "تارا" الباخرة البريطانية المسلحة التي نسفت بقذائف الطوربيد من غواصة ألمانية أثناء مرورها بخليج السلوق في بداية نوفمبر 1915. فقد أنزل الألمان بحارة السفينة البريطانية في البردي حيث سلموهم إلى الأتراك الذين أخذوهم أسرى وأرسلوا بهم تحت حراسة بعض القوات السنوسية إلى معسكر بير احكيم الواقع في منطقة صحراوية نائية. وكان من المستحيل تجاهل مثل هذا التعاون الصريح مع الألمان. ومن جهة أخرى بدأت تظهر في الإسكندرية بوادر قلق جدي لتوارد أخبار تنبئ بقرب حدوث هجوم تركي سنوسي تسانده الغواصات الألمانية التي كانت تجوب البحر بمحاذاة الساحل. وكانت تقارير المخابرات البريطانية تنطوي على كثير من المبالغة من حيث تقديرها لحجم القوات التي كانت موجودة بالفعل تحت تصرف الأتراك في ذلك الوقت، كما سرت شائعات عديدة أثارت مخاوف السلطات البريطانية من أن الصحراء كلها ربما تهّب عن بكرة أبيها لو دعاها السنوسيون للجهاد في صف تركيا.والحقيقة أن القوات التركية المرابطة على الساحل لم تزد قط عن نحو ألفين أو ثلاثة آلاف رجل، بينما كان جلّ المعسكرات السنوسية مشغولاً تماماً بمواجهة قوات الاحتلال الإيطالي في برقة. ولكن المجهول دائماً يوحي بالخطر، خصوصاً وأن السنوسيين اشتهروا بأنهم محاربون أشاوس لا يهابون شيئاً في سبيل العقيدة. وكان من الجلّى أن تأثير السنوسية يمكن أن يلهب حماس أعداد لا حصر لها من بدو الصحراء الأشداء لغزو وادي النيل فينقضوّن على  مصر الغنية القريبة المنال بدافع تختلط فيه الغيرة الدينية بالطمع في الغنائم. أما الاحتمال الأضعف نسبياً، وأن لم يكن مستحيلاً،فهو أن السنوسيين قد يثيرون موجة من الشعور الديني تجرف حتى الفلاحين المصريين المسالمين نحو دعوة الجهاد تحت راية الإسلام. بل جاء في الأخبار أيضاً أن السلطان على الدينار، سلطان دارفور، ربما ينضم إليهم هو الآخر ( وكان يتلقى أسلحة من الأتراك عن طريق السنوسيين، ثم هزم وقتل أثناء معركة مع بعض القوات البريطانية المتواجدة بالسودان في نوفمبر 1916). وكل تلك المخاوف التي ضاعف من حدتها تهويل أجهزة المخابرات أدت إلى تمركز جيش بريطاني قوامه ثلاثون ألف جندي للدفاع عن مصر وحدها في فترة من أدقّ مراحل الحرب العالمية الأولى .
   وكانت المهمة العاجلة التي شغلت السلطات البريطانية حينذاك هي اتخاذ احتياطات كافية لدرء الأخطار المحدقة بالحدود المصرية. ولهذا فإن المفارز المصرية الصغيرة المكلفة بأعمال خفر السواحل في السلوم وسيدي براني تم سحبها إلى مرسى مطروح حيث تجمعت بسرعة خلال شهر نوفمبر قوات الحدود الغربية بقيادة الجنرال والاس، وكانت تضم لواءين مختلطين أحدهما من سلاح الفرسان والآخر من المشاة ووحدة من سلاح المهندسين بالجيش المصري وقافلة التموين التابعة للفرقة الاسترالية الأولى. وفي نفس الوقت تقدمت القوات التي كان يقودها الأتراك فاحتلت سيدي براني ثم واصلت زحفها باتجاه مرسى مطروح،وكان قوامها حوالي 2500 رجل منهم 250 من جنود الجيش النظامي التركي والبقية من أفراد القبائل السنوسية الذين دربهم نوري باشا وجعفر العسكري وتزودوا بالبنادق الألمانية فضلاً عن ثمان مدافع جبلية وعشر رشاشات. أما القوات البريطانية التي تصدت لهم بمرسى مطروح فقد كانت هي الأخرى مكونة من نحو 2500 جندي منهم 500 من سلاح الفرسان.
   ودارت المعارك على شكل سلسلة من المناوشات بين كثبان الرمال القريبة من الساحل، وكانت خسائر الجانب البريطاني طفيفة نوعاً. وقد جرى أول اشتباك بين الجانبين عند وادي صنب على بعد أربعة أميال غربي مرسى مطروح، ولم يسفر عن نتيجة حاسمة. ثم وقعت بعد ذلك اشتباكات أخرى في وادي ماجد وفي منطقة حلازين خلال شهري ديسمبر 1915 ويناير 1916 هزم فيها العرب فأرغموا على التقهقر. وكانوا في كل تلك المعارك يقاتلون بثبات وإصرار، متقدمين في تشكيلات مفتوحة وهم يطلقون النار من خلف ساتر أثناء زحفهم، مما يشهد بكفاءة جعفر العسكري الذي أشرف على تدريبهم. أما المعركة الفاصلة فقد دارت رحاها عند العجاجية على مسافة 15 ميلاً في جنوب شرقي سيدي براني بتاريخ 26 فبراير 1916. وكانت القوات التركية السنوسية البالغ عددها 1600 رجل قد تحصنت في موقع دفاعي جيد بين التلال الرملية وفي حوزتها ثلاث مدافع جبلية وخمس رشاشات. إلا أنها هوجمت من الجانبين بقوات تفوقها عدداً فأجبرت على الانسحاب حيث تعرضت لهجوم فرقة من سلاح الفرسان ألحقت بها في النهاية هزيمة نكراء. وكان ممن شهدوا تلك المعركة دوجلاس نيوبولد (الذي منح لقب سير فيما بعد وأصبح وزيراً للشؤون المدنية في حكومة السودان، وتوفي سنة 1946). وقد وصف الموقعة بقوله :
" ... كانت الفرقة مؤلفة من 170 فارساً يرافقهم حمل من المجاريف وطباخ وبيطار. وقد اخترقوا صفوف القوات السنوسية تماماً حتى المؤخرة، وسقط منهم ستون قتيلاً معظمهم أصيبوا من الخلف برصاص بعض القنـّاصة العرب ممن تظاهروا بأنهم موتى على أرض المعركة".
   وقد وقع في الأسر جعفر العسكري بينما تمكن نوري من الهرب من فلول القوات التركية ثم استقل سفينة نقلته من البردي إلى تركيا مباشرة. واستمرت مطاردة المقاتلين العرب حتى توغلوا في الصحراء حيث تكبدوا خسائر كبيرة في الأرواح، وقدرت خسائرهم عموماً بنحو خمسمائة قتيل وأربعين ألف طلقة من الذخيرة وستين رأساً من الإبل المحملة بالتمور استولى عليها البريطانيون.
   وانتهت بذلك الحملة الساحلية، فعاد البريطانيون إلى احتلال السلوم في مارس 1916، كما تم إنقاذ الأسرى من بحارة السفينة "تارا" (وكانوا يعيشون على أكل القواقع كقوت رئيسي وهم في الأسر!) . وقد تمكن من إنقاذهم رتل صغير من العربات المصفحة بقيادة دوق وستمنستر، الذي انطلق في عملية جرئية قطع خلالها مسافة 120 ميلاً عبر الصحراء إلى بير احكيم وكانت نقطة أمامية منعزلة لا يوجد بها غير اثنين من الآبار الرومانية القديمة وضريح لأحد الأولياء وحصن تركي متهدم. وأقبل بدو الصحراء ممن كانوا قد انضموا إلى قوات نوري، فاستسلموا للبريطانيين بأعداد كبيرة تحت وطأة المجاعة التي بدأت تفتك بهم. وبعدئذ عادت القوة البريطانية إلى الإسكندرية بطريق البحر تاركة وراءها في السلوم حامية عسكرية تتألف من كتيبتين وسريـّة من جنود الهجانة وبعض المصفحات والطائرات الخفيفة .
  وفي غضون ذلك كان السيد أحمد قد شرع، بعد تأخر وتردد طويلين، في تنفيذ المهمة التي أسندتها إليه القيادة التركية العليا، وهي احتلال الواحات المصرية الواقعة غربي نهر النيل ومهاجمة وادي النيل في بعض المناطق غير الحصينة جنوبي القاهرة. وكانت تلك الحملة، وعلى رأسها السيد أحمد في زي قائد تركي، تضم حوالي 500 من رجال القبائل السنوسية وترافقها أمتعة كثيرة جداً كان من بينها سرير مزدوج على شكل هودج تحمله الجمال. وبعد مسيرة بطيئة قطعها على عدة مراحل انطلاقاً من الجغبوب إلى سيوة ومنها عبر الصحراء إلى واحة الفرافرة ثم البحيرة، وصل جيش السيد أحمد إلى واحة الداخلة على مسافة 170 ميلاً تقريباً غربي النيل حيث قضي صيف عام 1916. ورغم أن الحملة باءت بالفشل الذريع، إلا أنها مع ذلك نجحت في تحقيق أهداف الاستراتيجية التركية التي كانت ترمي إلى انشغال أكبر عدد ممكن من قوات العدو بمهمة الدفاع عن وادي النيل بحيث يخفف الضغط عن القوات التركية المحاربة في منطقة قنال السويس.
    ولنعد الآن إلى متابعة سيرة السيد إدريس الذي كنا قد تركناه في امساعد، على الحدود البرقاوية، عقب عودته من الحج في شهر مارس1915. وكان السيد إدريس أدرى بشؤون السياسة الخارجية وأبعد نظراً وأكثر حذقاً من السيد أحمد في هذا المجال. فهو لم يستصوب أبداً فكرة الزّج بالسنوسيين في الحرب التركية ضد البريطانيين الذين حاول أن يقيم معهم علاقات ودية. ولما كان على علم بالاستعدادات الجارية توطئة لاندلاع الثورة العربية في الحجاز، فقد أحس بأن الإمبراطورية التركية أمست على شفا الانهيار، وبالتالي فإن مهادنة البريطانيين ربما تكون أجدى لخدمة مصالح شعبه من مساندة الأتراك في الحرب ضدهم. وكذلك فإن السيد إدريس كان، مثل أبيه، رجلاً يجنح للسلام بقدر الإمكان، فلم يشعر بأدنى رغبة في دخول الحرب شخصياً، غير أن إخلاصه للسيد أحمد منعه أيضاً من اتخاذ أي خطوة من شأنها عرقلة التعاون القائم بينه وبين الأتراك. وبحكم موقعه كقائد للمعسكرات المسلحة التي كانت تتصدى لمواجهة الإيطاليين في دواخل برقة، استطاع السيد إدريس أن ينأى بنفسه عن الحملات التركية السنوسية في الأراضي المصرية وأن يركز كل جهده واهتمامه على مقاومة الغزو الاستعماري الإيطالي داخل ليبيا نفسها. وهذا ما يتضح من خلال سرده لأحداث تلك الفترة .        


         (وإلى اللقاء في الحلقة التالية ) .....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق