الأربعاء، 2 مايو 2012

المشهد الاخير (الحلقة الاولى )


                             المشهد الأخير
خريف ليبيا
الحلقة الأولى                              29-4-2012                   بقلم : ابراهيم السنوسي أمنينه
قبل أن يحلّ ربيع 2011 على بنغازي ويزّين الأقحوان بلونه الأصفر الخلاّب تلك الجزيرة الخضراء الرحبة المستديرة والتي تقع في مواجهة حصن الطاغية في بنغازي كتيبة الذعر والقهر والعهر قبل أن يحلّ ربيع 2011 على بنغازي بأسبوعين سالت دماء الشباب على جدران هذه الكتيبة وتضرجت أيديهم بدمائهم الزكية وهي تدق على باب الحرية الحمراء عندما هجم الشهيد الشاب المهدي زيو بسيارته المشحونة والمفخخّة بالمتفجرات المصنعة محلياً إلى جانب أسطوانات غاز البيوتين منطلقاً مسرعاً لا يلوي على شيء رغم وابل الرصاص والصواريخ والمقذوفات الموجهة للمهاجمين عراة الصدور القادمين من ناحية مصرف الصحارى ، والمقبرة التي كان فيها لحد الوليّ الصالح سيدي بوسديره الذي نبشها أعوان الطاغية في بداية الثمانينات من القرن الماضي .


قال الشهيد المهدي زيو لزملائه المهاجمين عندما تصل سياراتي بوابة الكتيبة إقذفوا بكم هائل من (الجولاطينة) T.N.T. على سيارتي ، وبالفعل لما أدركوا أنه كان قد صمّم على نيل الشهادة قد تلاها أمامهم وكبّروا وهلّلوا ثلاثاً ، كبّروا وهللوا معه وعلت أصوات تلك الجموع بالتهليل والتكبير ، وضغط المهدي زيو على دواسة السرعة وثبتها بقدمه اليمنى وطارت السيارة بأقصى سرعة ما هي إلا أقل من نصف دقيقة حتى وصلت إلى واجهة حصن الطاغية تحت وابل المدافعين وزملاؤه يمطرون سيارته كما أوصاهم بالجولاطية وما هي إلا ثوان معدودة حتى انفجرت وتطايرت أجزاؤها في الهواء مع أشلائه الطاهرة وبفعل شدة الانفجار هوت جدران حصن البغاء والأبواب الفولاذية والجدران الأسمنتية المسلحة التي كانت تؤوي الساعدي الجرذ الأبله وخاله القرد التشادي عبد الله السنوسي فلاذ كلاهما بالفرار باحثين عن مخرج للنجاة :
ترجو النجاة ولا تسلك مسالكها  ***  إن السفينة لا تجري على اليابس
بعد أن أحدثوا التقتيل والحرق بحق الجند الذين رفضوا إطلاق النار على الثوار العزّل عراة الصدور المطالبين فقط بالحرية وأبسط الحقوق في الحياة الكريمة ، فقيدوا أرجلهم وأيديهم من خلاف ثم أطلقوا على رءوسهم وصدورهم الرصاص ثم أشعلوا فيهم النيران فاحترقوا حتى اختفت معالمهم فما بانت إلا عظامهم ، وفرّ المجرمون كالجرذان المرعوبة عبر بوابة صلاح الدين الجنوبية قاصدين مطار بنينة .
إذن : سقطت قلعة الطاغية قبل حلول ربيع بنغازي بتسعة أيام أي يوم 20 فبراير2011 وفي يوم 20 مارس2011 تم دحر أرتال الطاغية وتحرّرت أجدابيا وفي يوم 20 أغسطس 2011 الذي صادف يوم 20 رمضان وهو يوم فتح مكة .. انظر الحكمة من ذلك ، فنعم التاريخ ونعم المصادفة ونعم البركة . سقط حصن الطاغية في طرابلس وفي يوم 20 سبتمبر 2011 تحرّرت سبها عاصمة الجنوب وفي يوم 20 أكتوبر 2011 لفظ الطاغية آخر أنفاسه دون أن ينطق بالشهادة هو وابنه القاتل المختال والمغترّ المغرور المعتصم بنفسه لا بالله . فماذا حدث بعد ذلك ؟؟
مضت الأيام تطوى وجرت الأحداث والحوادث متسارعة غير قابلة للتسجيل : الشهداء يسقطون لكننا نراهم يرتفعون ترفرف أجنحتهم وهم يعانقون السماء فلا يبكيهم ذويهم إذ أنزل الله على قلوبهم السكينة والسلوى ، ولقد شاهدنا على الشاشة تلك الأم الثكلى وهي تقتحم المكان الذي سُجّي فيه جثمان ابنها ابن الثلاثينات من العمر بكفنه لا يظهر منه إلا وجهه الملتحي مبتسماً والأم الرءوم تخاطبه مؤمنة لا تبكيه ولا تشق ثوبها ولا تدعو بدعوى الجاهلية الأولى بصوت هادئ حنون بالكاد يشقّ  السكون من حول الجثمان تطلب منه وهو الشهيد المسجّى أمامها وهي تقبّل جبينه ووجنتيه أن يشفع لها عند الرفيق الأعلى ويدعوها إلى جواره ويمنّ عليها بالشهادة فتلحق به ، فيلحقها الله بالنبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً .
كثيرات هن الثكالى وكثيرات هن الأرامل وكُثُرهم اليتامى .
لكنهم يعلمون علم اليقين أن الذين طلبوا الشهادة نالوها وفازوا بها ذلك الفوز العظيم ، ورأوا الملائكة المجنّحة رأي العين تحارب معهم جنباً إلى جنب – إذ تنفد ذخيرتهم والعدو أمامهم ، وبينما هم كذلك تلقى كتائب العدو بأسلحتها على الأرض رافعين أيديهم مستسلمين متوسلين راجين ألاّ يُفتك بهم ، وعندما يأمرهم  الثوار بالجلوس على الأرض (وأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، ثم يسألهم الثوار لماذا استسلمتم وألقيتم السلاح وأنتم كثرة ونحن قلّة ؟ تأتي الإجابة من الطرف الآخر واضحة : أنتم كثرة ولا قبل لنا بكم ، فأردنا النجاة بجلدنا ، يقول الثوار المؤمنون : نحن عددنا لا يربو على عشرة مقاتلين نفدت ذخيرتنا وكنا قاب قوسين أو أدنى من الاستسلام ، عندها قالت كتائب العدو : كنا نسمعكم تكبّرون وتهلّلون صداكم يملأ الأفق ولا نراكم أقل عدداً من كتيبة ، تكبيركم يصم آذاننا .
فجاءهم ذلك الصوت الرخيم يخترق السكون ويملأ الآفاق ولكن لا يصم الأذن بل يزيل الوقر ويكسر الأقفال التي على القلوب :
بسم الله الرحمن الرحيم : "وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين" صدق الله العظيم (الأعراف الآية 126)
وأني لأخال هذا الصوت الذي هزّ السكون واخترق الأذان ومسّ شغاف أفئدة هؤلاء فأسعفتهم ذاكرة التاريخ وأيقنوا أن فرعون يتناسخ ويتكرر عبر الأزمان ولا يموت إنما تموت القلوب التي على أقفالها – وأحسبهم كفروا بالطاغية في تلك الليلة ، وقرأو :ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين ، فكأنما ولدتهم أمهاتهم من جديد .

وكان هذا هو المشهد الأخير

         ؛؛؛؛ وإلى لقاء قادم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق